الرئيسية / ذاكرة الملتقى/ سوريّات / هل استُقبِل الجنرال غورو في دمشق استقبال الفاتحين، وهل جرّ الدّمشقيّون عربته؟

هل استُقبِل الجنرال غورو في دمشق استقبال الفاتحين، وهل جرّ الدّمشقيّون عربته؟

عمرو الملّاح – التّاريخ السّوريّ المعاصر

 تبرز بين الحين والآخر قصّةٌ تنتمي إلى السّرديّات الشّفاهيّة؛ مفادها أنّ الجنرال غورو كان قد دخل دمشق محتلّاً بعد موقعة ميسلون الّتي دارت رحاها في يوم 24 تموز/ يوليو من العام 1920، وهو يستقلّ عربة تجرّها الخيول، وأنّ أهالي دمشق كانوا في استقباله على مشارفها وهم يرددّون الأهازيج، بل وبلغت الحماسة من نفوس بعض وجهائها مبلغاً عظيمًا؛ فتبرّعوا بحلّ وثاق خيول عربته تلك، وربطوا أجسادهم مكانها، ومن ثمّ قاموا بجرها في شوارع المدينة.

كما أنّ هناك قصّةً أخرى تذكر أنّ الجنرال غورو استُقبِل بعد معركة ميسلون بيوم واحد (25 تمّوز/ يوليو من العام 1920) على مدخل العاصمة من قبل جميل الإلشي وزير الحربيّة السّوريّة الجديد المعيّن بعد استشهاد سلفه البطل يوسف العظمة، ومعه نوري باشا السّعيد، وتتحدّث عن تقديم الإلشي لغورو وبإيعاز من علاء الدّين الدّروبي رئيس الوزراء يومها مفاتيح العاصمة، قائلاً له “دمشق مفتوحة لك يا عطوفة الجنرال بإمكانك أن تدخلها متى شئت!”

والواقع إنّ هاتين الرّوايتين لا ينبغي أن تُؤخذا على إطلاقهما، وإنّما يقتضي التّأمّل فيهما ومناقشتهما ونقدهما.

وسأحاول في ما يلي أن أستعرض بعض المعطيات التّاريخيّة الّتي من شأنها أن تدحضهما:

أوّلاً- لم يكن الجنرال غورو من دخل دمشق محتلّاً في 25 تمّوز/ يوليو من العام 1920، وإنّما الجنرال غوابيه الّذي كان من قاد الجيش الفرنسيّ في معركة ميسلون.

ثانياً- كان في استقبال الجنرال غوابيه يوم دخوله دمشق في 25 تمّوز/ يوليو الجنرال نوري باشا السّعيد موفداً عن الملك فيصل، وليس موفداً عن رئيس الوزراء آنذاك علاء الدّين الدّروبي.

وكانت قد نشرت مجلة “إليستراسيون” الفرنسيّة الشّهيرة تقريراً مفصّلاً وثّقت فيه احتلال الجنرال غوابيه لمدينة دمشق، ويتضمّن صورة تظهر استقبال نوري باشا السّعيد له ممثّلاً للملك فيصل وسيرهما معاً وبرفقتهما ضبّاط فرنسيّون وعرب على ضفّة نهر بردى (قارن مع: l’Illustration, 21 AOUT 1920 ). مع الإشارة إلى أنّ الملك فيصل كان ما يزال في دمشق، ولم يغادرها إلّا في 28 تمّوز/ يوليو بالقطار مصطحباً معه حاشيته، وفي عدادها الجنرال نوري باشا السّعيد.

صورة تظهر استقبال نوري باشا السعيد له ممثلاً للملك فيصل وسيرهما معاً وبرفقتهما ضباط فرنسيون وعرب على ضفة نهر بردى بدمشق في في 25 تموز/ يوليو من العام 1920 نقلاً عن مجلة (l’Illustrat ion)

ثالثاً- حرص الجنرال غورو على دخوله مدينة دمشق بعد مغادرة الملك فيصل وحاشيته المدينة. وأمّا تاريخ دخوله إليها فهو محلّ خلاف بين المؤرّخين السّوريّين؛ فمنهم من يذكر أنّه دخلها في 30 تمّوز/ يوليو؛ ومنهم من يقول إنّه دخلها في الأسبوع الأوّل من آب/ أغسطس؛

رابعاً- ليس في محفوظات الأرشيف الفرنسيّ ولا الصّور الرّسميّة والبطاقات البريديّة الّتي صدرت في بدايات عهد الانتداب الفرنسيّ لسوريّا ولبنان صورة واحدة تظهر الجنرال غورو مستقلّاً عربة تجرّها الخيول في أيّ من مدن بلاد الشّام الّتي دخلها. مع الإشارة هنا إلى أنّ الجنرال غورو كان يصطحب فريقاً من المصوّرين ليوثّقوا مشاهد مرور موكبه في المدن الشّاميّة الّتي دخلها.

خامساً- جلّ الصّور الّتي نشرتها الصّحف الفرنسيّة للجنرال غورو وهو يدخل دمشق للمرّة الأولى إنّما تظهره أوّلاً مستقلّاً قطاراً ثمّ ممتطياً جواداً أدهم. وأكاد أجزم أنّه لو استقبل الجنرال غورو في دمشق استقبال الفاتحين وجرّ بعض أهلها عربته لسارع المصوّرون المرافقون له لالتقاط صور تذكاريّة لهذه اللّحظات التّاريخيّة النّادرة، ولتصدّرت صورة هذا الاستقبال المزعوم الصّحف الفرنسية.

سادساً- حسماً للنقاش الدّائر بشأن تاريخ دخول الجنرال غورو إلى مدينة دمشق، وكيفيّته، والمراسم الّتي اتبعت في البرنامج الّذي أعدّ لاستقباله رسميّاً وشعبيّاً تطالعنا صحيفة “العاصمة” الصّادرة بدمشق، الّتي كانت تنشر كافّة الأخبار والبلاغات الرّسميّة الصّادرة عن الحكومة السّوريّة والمندوبيّة الفرنسيّة معاً، في صدر صفحتها الأولى بتقرير مفصّل يتناول دخول الجنرال غورو مدينة دمشق للمرّة الأولى يوم السّبت الموافق 7 آب/ أغسطس من العام 1920 (قارن مع: “العاصمة: الجريدة الرّسميّة”، ع 145، س2، تا الاثنين 9 آب 1920م).

صورة تقرير صحيفة (العاصمة: الجريدة الرّسميّة) (ع 145، س2، الاثنين 9 آب 1920) الصّادرة بدمشق والمتضمّن برنامج زيارة الجنرال غورو إلى العاصمة للمرّة الأولى في يوم السّبت 7 آب/ أغسطس والّتي امتدّت لغاية يوم الاثنين 9 آب/ أغسطس من العام 1920

ووفقاً لما جاء في التّقرير المعنون (فخامة الجنرال غورو) فإنّ الجنرال غورو كان قد قدم إلى المدينة مستقلّاً قطاراً أقلّه إليها قادماً من عاليه، ووصل محطّة الحجاز حيث جرى له استقبال رسميّ نظّمته حكومة الرّئيس علاء الدّين الدّروبيّ الّتي كان الزّعيم الوطنيّ فارس الخوري من أركانها، وتخلّل ذلك تقليد الجنرال الضّبّاط الفرنسيّين الأوسمة، ومن ثمّ امتطى (جواده)، وسار في موكب رسميّ نحو قصر المهاجرين الّذي  اتّخذه مقرّاً لإقامته. 

            

الجنرال غورو بدمشق في يوم الاستعراض العسكريّ المقام في 7 آب/ أغسطس من العام 1920 بعد وصوله إلى دمشق مستقلّاً قطاراً أقلّه إليها قادماً من عاليه

وتورد “العاصمة” في التّقرير ذاته خبر إقامة الحكومة حفل عشاء على شرفه مساء ذلك اليوم (السّبت 7 آب/ أغسطس من العام 1920) في دار الحكومة تخلّله إلقاء كلمات بهذه المناسبة.

واقتصر برنامج الجنرال غورو في صبيحة اليوم التّالي (الأحد 8 آب/ أغسطس من العام 1920) على زيارة المعالم الدّينيّة في المدينة، ثمّ إقامته مأدبة عشاء في قصره حضرتها الحكومة ومعتمدو الدّول ورجال المندوبيّة الفرنسيّة.

ووفقاً للتقرير فقد اختتم الجنرال غورو زيارته إلى دمشق في يوم الاثنين 9 آب/ أغسطس من العام 1920 مستقلّاً القطار من محطّة الحجاز متّجهاً إلى عاليه.

وأحسب أنّ هذه المعطيات تقطع الشّكّ باليقين بل وتوضح التّاريخ الفعليّ لدخول الجنرال غورو لمدينة دمشق للمرّة الأولى في يوم السّبت 7 آب/ أغسطس، والّتي امتدّت لغاية يوم الاثنين 9 آب/ أغسطس من العام 1920. كما أنّها تلقي بظلال من الشّكّ حول كلّ ما هو متداول مؤخّراً لجهة تحديد موعد زيارته تلك، وأنّها جرت بتاريخ 25 تموز/ يوليو من العام 1920 أي بعد يوم واحد من معركة ميسلون.

كما أنّ تقرير (العاصمة: الجريدة الرّسميّة) المفصّل يوضح أنّه لم يُسْتَقْبَل على أطراف المدينة، وإنّما وصلها مستقلّاً قطاراً حطّ رحالَه في محطّة الحجاز في قلب العاصمة، ومن ثمّ امتطى جواده في موكب اتجّه إلى قصر المهاجرين مقرِّ إقامته.

وتلكم هي معطيات بالغة الأهمّيّة من شأنها دحض أيّ مزاعم بشأن وصول الجنرال مستقلّاً عربة تجرّها الخيول إلى آخر ما هنالك من رواية حلّ وثاق عربة غورو وجرّها، أو أنّه استقبل بعد معركة ميسلون بيوم واحد (25 تموز/ يوليو من العام 1920) على مدخل العاصمة من قبل جميل الإلشي وزير الحربيّة السّوريّة وبرفقته نوري باشا السّعيد، وتقديم الإلشي لغورو وبإيعاز من علاء الدّين الدّروبيّ رئيس الوزراء يومها مفاتيح العاصمة، قائلاً له: دمشق مفتوحة لك يا عطوفة الجنرال بإمكانك أن تدخلها متى شئت!.

وهنا  أتساءل: ألم يَحِنِ الأوان لكي نعيد النّظر في كثير من المسلّمات وأشباه الحقائق وأنصافها حين نتناول بالعرض والتّحليل محطّات مهملة بل ومشوّهة من تاريخنا القريب؟

 

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

جائحة كورونا اللّغويّة

ماريانّا ماسّـا – إيطاليا منذ أن اجتاح وباء الفيروس التّاجيّ الكوكب وغيّر إيقاع الحياة فيه، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *