الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / جائحة كورونا اللّغويّة

جائحة كورونا اللّغويّة

ماريانّا ماسّـا – إيطاليا
منذ أن اجتاح وباء الفيروس التّاجيّ الكوكب وغيّر إيقاع الحياة فيه، يُسَابق العلماءُ والباحثون الزّمن في محاولة للسيطرة عليه، وتحجيم آثاره الكارثيّة. ولا يتوقّف الأمر على العلماء والباحثين في الطّبّ والبيولوجيا والفيروسات وإنّما يمتدّ لغيرهم من الباحثين في مجالات العلوم الإنسانيّة وعلى رأسهم الباحثون العاملون في مجالات علم اجتماع اللّغة والمصطلحات الّذين يؤكّدون أنّ خطاباً يتميّز بالوضوح والسّلاسة حول هذه الأزمة، سيلعب دوراً محوريّاً في تجاوزها بأقلّ الخسائر.
من ميلانو، عاصمة الإقليم الأكثر تضرّراً من الأزمة صحّيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، جاءت الدّعوة لعقد مؤتمر علميّ يتناول التّداعيات اللّغويّة لأزمة الفيروس التّاجيّ وأثرها على اللّغة والخطاب العلميّ والسّياسيّ الّذي يعوّل عليه في استيعاب الأزمة، والتّفاعل معها بشكل إيجابيّ من جانب الجماهير، لتنطلق من إيطاليا إحدى أهمّ المبادرات العلميّة لتحليل عناصر التّواصل اللّغويّ في مجتمع الأزمة العالميّة.
اجتمع الخبراء اللّغويّون الإيطاليّون في ندوة افتراضيّة أدارتها Maria Teresa Zanola (ماريا تيريزا زانولا)، أستاذ اللّغة الفرنسيّة، ورئيس مرصد المصطلحات والسّياسات اللّغويّة (OTPL) بالجامعة الكاثوليكيّة في ميلانو. جاءت النّدوة تحت عنوان “مفردات خطاب الأزمة في وسائل الإعلام” وشارك فيها كلّ من Bernard Cerquiglini (بيرنار شيركيليني)، الخبير اللّغويّ والرّئيس السّابق للوكالة الجمعيّة الأكاديميّة الفرانكوفونيّة، وFrancesco Sabatini (فرانشيشكو ساباتيني)، الخبير اللّغويّ والرّئيس الفخريّ لأكاديميّة ديلا كروسكا (وهي أهمّ مؤسّسة بحثيّة لدراسة اللّغة الإيطاليّة تعمل منذ 1583)، وPaolo D’Achille (باولو داكيلّي)، أستاذ علم اللّسانيّات في جامعة روما الثّالثة وعضو أكاديميّة ديلا كروسكا، وMassimo Scaglioni (ماسّيمو سكاليوني)، أستاذ تاريخ وسائل الإعلام في الجامعة الكاثوليكيّة في ميلانو.
في مداخلته أشار ساباتيني إلى أنّ المصدر الرئيس لمصطلحات الأزمة العالميّة الجديدة هي اللّغة الإنجليزيّة، وقد ذكر على سبيل المثال كلمة “lockdown” الّتي انتشرت في إيطاليا للإشارة إلى حالة الإغلاق التّامّ لجميع الأنشطة الاقتصاديّة، ووضّح أنّه وفقًا لبعض الأبحاث الّتي قام بها Claudio Marazzini، رئيس أكاديميّة ديلا كروسكا، فإنّ كلمة lockdown وليدة العصر الحالي حيث ظهرت في بيئة السّجون للإشارة إلى ظروفها وأحوال السّجناء، ثمّ أصبحت تشير إلى حالة الإغلاق والانسداد والاعتزال. مؤكّداً أنّ العودة إلى أصل هذه الكلمة والكلمات المفتاحيّة الأخرى الّتي انتشرت مع أزمة كورونا من اللّغة الإنجليزيّة ويتمّ تداولها اليوم في اللّغات الأخرى، سيساعدنا في فهم واستيعاب هذه الأزمة، ففي الظروف الرّاهنة قد يؤدّي عدم شفافيّة اللّغة وعدم وضوحها إلى أضرار اجتماعيّة. وذكر ساباتيني ما أشار إليه Sergio Lepri (سيرجو ليبري) الرّئيس السّابق لوكالة الأنباء الإيطاليّة، من أنّ المصدر الرّئيس للمفردات الجديدة في الأزمات غالباً ما يكون عناوين الصّحف، ومن ثمّ تتحمّل الصحافة المسؤوليّة الأكبر في نشر وتكريس مفردات الأزمات.
وأضاف بيرنار شيركيليني ملاحظاته عن الوضع الفرنسي، وقال إن الأزمات الاجتماعية غالبا ما تؤدي إلى حراك لغوي، والمثال الكلاسيكي على ذلك بالنسبة للغة الفرنسية هو الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، حيث غيرت قاموس اللغة تغييرًا جذريًا، ليس فقط على مستوى المفردات السياسية والاجتماعية، وإنما أيضا على مستوى الأصوات وتركيب الجمل. وهو ما يحدث الآن مع أزمة الفيروس التاجي. ففي 7 مايو الماضي قامت الأكاديمية الفرنسية، التي تم تأسيسها في 1635 بهدف تطوير اللغة الفرنسية، بإصدار إعلان يفيد بضرورة استخدام مصطلح COVID-19 بصيغة المؤنث وليس بصيغة المذكر، حيث تُرجم المصطلح عن اللغة الإنجليزية coronavirus disease 2019 وكلمةdisease أي مرض بالفرنسية هي كلمة مؤنثة (maladie). وقد أثار هذا الإعلان جدلًا حادًا بين المتخصصين اللغوين، حتى داخل الأكاديمية الفرنسية ذاتها، لأن الناطقين بالفرنسية في فرنسا وبلجيكا وسويسرا يعتبرون ”كوفيد 19“ كلمة مذكرة، في حين أنها مؤنثة بالنسبة للناطقين بالفرنسية في كبيك. وذكر شيركيليني أن هناك أمراضا أخرى مذكرة مثل le cancer (السرطان) و typhus le (التيفود). والحل الذي قدمته الأكاديمية الفرنسية يتماشى مع الاستخدام الكبيكي بالرغم من أنه يناقض تمامًا الاستخدام الفرنسي. وبالتالي، قال شيركيليني، إن 7 مايو يعد يومًا تاريخيًا للأكاديمية الفرنسية، لأنها في ذلك اليوم تحولت إلى أكاديمية فرانكوفونية.
وتحدث شيركيليني عن الاستعارات اللغوية الإنجليزية التي دخلت اللغة الفرنسية، مثل كلمة ”cluster“ للإشارة إلى “البؤرة” في فرنسا، كما حدث في إيطاليا بالنسبة لكلمة “lockdown“ للإشارة إلى “الإغلاق التام”، وإذا كانت كلمة lockdown غير دقيقة بالنسبة لكثير من الإيطاليين ولكنها مفهومة إلى حد كبير، فكلمة cluster غير مفهومة تمامًا بالنسبة لكثير من الفرنسيين. وقال شيركيليني إنه قبل الاستعانة بكلمات إنجليزية لا بد أن نقدّر إن كانت اللغة الفرنسية في حاجة إليها، أو إن كان هناك كلمات فرنسية يمكن استخدامها دون استعارة كلمات أجنبية، وعلى سبيل المثال بدأت تنتشر في فرنسا كلمة ”tracking“ للإشارة إلى “تتبع” المخالطين للمصابين بالفيروس، ولكن اللغة الفرنسية غنية بالكلمات البديلة لها trace, terage, tracabilitè إذا لا بد من رفض دخول كلمة tracking في القاموس الفرنسي.
وهناك أيضًا حالات النسخ اللغوي (linguistic calque) وأبرز مثال لها هو نسخ المصطلح الإنجليزي social distancing الذي تُرجم بالفرنسية بـdistance sociale، لكن هذا التعبير يشير إلى “التباعد الاجتماعي”، يعني بالفرنسية التباعد بين فئات المجتمع، وليس فقط بين الأشخاص. وفي إحدى خطاباته الأخيرة استخدم رئيس الوزراء الفرنسي “إدوار فيليب ” مصطلح “التباعد الاجتماعي ” ثم صحح قوله بعدها مباشرة بمصطلح أدق وهو “التباعد الجسدي”. فنحن لا نريد التباعد بين فئات المجتمع، بل نريد فقط التباعد بين الأجساد.
ومن التطورات اللغوية أثناء الأزمات هناك أيضا التغير الدلالي لبعض المفردات، كما حدث لكلمة masqueوهي الكلمة التي يعد معناها الأول حاليًا هو “الكمامة”. ولكن أول معانيها في القاموس الفرنسي كان “القناع” الذي نرتديه لإخفاء ملامحنا بهدف التضليل أو الخداع. وهو المعنى الذي وصل إلى اللغة الفرنسية من اللغة الإيطالية في عصر الكوميديا ديلارتي. ثم تطور المصطلح واكتسب أيضا دلالة الحماية masque anti-gaz أي قناع الغاز، ويقول شيركيليني إنه من الجدير بالذكر أننا استمعنا في الأيام القليلة الماضية لمسؤولين حكوميين وهم يقولون”les ais doivent se masquer ووفقًا للمعنى القاموسي للفعل se masque تعني تلك الجملة “يجب على الفرنسيين أن يتبرقعوا”. لا بد إذن من تحديث التعريف الخاص بهذا الفعل في القاموس الفرنسي حتى يُذكر أنه أصبح لديه معنى جديد وهو “ارتداء الكمامة.”
ومن الظواهر اللغوية الناتجة عن انتشار الوباء، هناك أيضًا فقدان الطابع المتخصص لبعض الكلمات التي دخلت قاموس اللغة اليومية، والتي أصبح يستخدمها الجميع، المتخصصون منهم وغير المتخصصين. على سبيل المثال أصبحت مصطلحات طبية مثل “فترة الحضانة” وجهاز تنفس صناعي، ومصاب بدون أعراض، دارجة ومنتشرة بين عامة الشعب الفرنسي. وأيضًا في صفوف الشعب الإيطالي أصبح مصطلح “مصاب بدون أعراض” من أكثر الكلمات انتشارًا في نهاية المرحلة وفي بداية المرحلة لأنه يدل على الفئة الأكثر خطورة بين المصابين، والتي تحتاج إلى الحرص الشديد في التعامل معها، من أجل إعادة فتح المجال العام، والعودة إلى ما أطلق عليه (الحياة الطبيعة الجديدة) دون مخاطر كبيرة.
وأضاف شيركيليني إلى ملاحظاته تقديره للأسلوب البلاغي الذي اعتمد عليه رئيس الدولة إيمانويل ماكرون في خطاباته الموجهة إلى الشعب عبر التلفزيون، وقال إنه استوحى أسلوبه البلاغي الأنيق من كبار الرؤساء الفرنسين مثل “كليمانسوه” وودي غول، فقد استخدم جمل بسيطة (اسم فاعل، فعل، اسم منصوب) دون كلمات إنجليزية ودون مصطلحات تقنية مخيفة، ودون حتى أن يذكر كلمة” confinement“ (العزل المنزلي)، بل استبدلها بالتعبير الأكثر ألفة ”ابقوا في منازلكم“. وكان هذا المزج بين أسلوب بلاغي أنيق وبسيط في آن واحد مثيرًا للإعجاب ومطمئنًا.
باولو داكيلي تناول في مداخلته بعض النقاط المهمة عن مفردات الأزمة في اللغة الإيطالية، وشرح وجهة نظره بأن اللغة الإنجليزية كان لها تأثير قوي على اللغة الإيطالية في بناء قاموس الأزمة الحالية، لأن المصطلحات الإنجليزية أكثر اختصارًا ودقة من الألفاظ المقابلة لها في الإيطالية، كما هو الحال في كلمة ”lockdown“، التي لا نجد لها مقابل في الإيطالية، وكلمة ”droplet“ التي تحمل معنين، أحدهما ”الرذاذ“ والآخر ”المسافة المسموحة” بين الأشخاص لتجنب العدوى، وتعد هذه الكلمة الإنجليزية أسهل من الكلمة الإيطالية ”microgoccia“، والتي بدورها لا تحمل إلا معنى القطرة الصغيرة جدًا. ولذلك ظهرت كلمة droplet بقوة في عناوين الأخبار عن الفيروس، ثم انتشرت بعد ذلك بين الجمهور العام.
وذكر داكيلي أنه منذ بضعة سنوات شكل رئيس أكاديميا ديلا كروسكا Marazzini (ماراتسيني) لجنة INCIPIT للسياسات اللغوية من أجل التحكم في إدخال المصطلحات الإنجليزية التي قد تكون غير مفهومة للإيطاليين الأكبر سنًا، وأولئك الذين لا يجيدون الإنجليزية. ولم تصدر لجنة INCIPIT حتى الآن أي بيان بالنسبة للكلمات الإنجليزية التي دخلت اللغة الإيطالية منذ بداية أزمة كورونا، ولكن الأكاديميا قامت بإصدار بيان للإجابة على استفسار أحد المستخدمين عن المصطلح data breach، الذي عثر عليه في موقع المعهد القومي للحماية الاجتماعية. وقدمت أكاديميا ديلا كروسكا المقابل الإيطالي لهذا المصطلح وهو “ violazione dei dati personali” أي خرق البيانات الشخصية، وهو مصطلح أطول من المصطلح الإنجليزي ولكنه مفهوم تمامًا لأي مواطن إيطالي.
وقامت لجنة INCIPIT أيضًا بتقديم اقتراح lavoro agile العمل السلس كمقابل إيطالي للمصطلح smart-working، ولكن المصطلح الأكثر انتشار لهذا المفهوم أصبح telelavoro”، وهو المصطلح الذي انتشر تلقائيًا بين الجمهور الإيطالي دون تدخل من خبراء اللغة الإيطالية.
وتحدث داكيلّي أيضًا عن تغيير ترتيب معاني الكلمات، فعلى سبيل المثال في القاموس الإيطالي كان معنىmaschera الخامس هو “الكمامة”، ولكنه الآن أصبح المعنى الأول في ذهن المتلقي الإيطالي. كما هو الحال بالنسبة لكلمة ventilatore الذي كان يدل أولًا على المروحة، والآن أصبح معناه الأول هو “جهاز التنفس الصناعي”.
ماسيمو سكاليوني تناول موضوع تأثير التلفزيون على لغة الأزمة والذي وصفه بأنه “مقياس ريختر لزلزال الأزمة” لأن القنوات التلفزيونية القومية استعادت مكانتها المركزية في منازل الإيطاليين، كما كان الوضع في السبعينيات من القرن الماضي، عندما لم تواجه القنوات القومية منافسة من وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية. وكان للتلفزيون الإيطالي القومي دورًا أساسيًا في تشكيل لغة الفيروس، لأنه كان الوسيلة المفضلة لدى الشعب الإيطالي لمتابعة تطورات الأزمة. وأصبح علماء الفيروسات في الفترة الأولى من الأزمة نجوم البرامج التلفزيونية الجدد.
وذكر سكاليوني أهم الكلمات التي ظهرت مع الأزمة وكيف تطور استيعاب الأزمة مع تغير المفردات، فعلى سبيل المثال تحدثت Ilaria Capua (إيلاريا كابوا)، عالمة الفيروسات وأستاذة علم الفيروسات في جامعة فلوريدا، عن “الفيروس الصيني” في النشرة الإخبارية على القناة الأولى في 23 يناير الماضي. وكانت هذه التسمية تحمل إشارة إلى البعد الجغرافي وبالتالي بعد الخطر. وبهذا المثال أكّد سكاليوني أن وسائل الإعلام تتبنى دائما في بدايات الأزمات خطابا يقلل من حجم الأزمة لعدم إثارة الذعر بين الجماهير.
ثم في نهاية فبراير انقسمت الآراء حول قضية الفيروس في البرامج الحوارية، التي تقوم أساسًا على انقسام الآراء، واتهم البعض بالـ”جنون” هؤلاء الذين قد بدأوا في وصف انتشار الفيروس باستخدام مفردة ”وباء عالمي“. وفي مارس، بعد انتشار الوباء في شمال إيطاليا، ظهرت على النشرات الإخبارية التلفزيونية المصطلحات الحربية، فالمستشفيات أصبحت خنادق، والعاملون في القطاع الصحي أصبحوا “جيشًا يقاتل على الجبهة”.
ومع تصاعد الأزمة تصاعدت أيضًا نسبة مشاهدة التلفزيون القومي، وبالأخص خطابات رئيس الوزراء جوزيبي كونتي ونشرة الأخبار المسائية والنشرة اليومية لرئيس الحماية المدنية. وذكر سكاليوني أن الحدث التلفزيوني الذي استحوذ على أكبر عدد من المشاهدين كان صلاة الغفران والمباركة من أجل روما والعالم التي تلاها بابا الفاتيكان في 27 مارس 2020 من ميدان القديس بطرس، وهي من أسمى الصلوات لدى الكاثوليك. كانت كلمات البابا بمثابة مشاعل من النور في ظلام الأزمة، لأنها عبّرت عن مشاعر وحاجة جماعية للتضامن والأمل، وهو ما جعل أصداءها تتردد في أنحاء كثيرة.
ماسيمو سكاليوني هو محرر كتاب ”الفيروس الآخر، التواصل والتضليل في زمن كوفيد-19“ الصادر في مايو الماضي عن دار نشر Vita e Pensiero. ينقسم الكتاب إلى جزئين: الجزء الأول يتناول موضوعات متعلقة بـ“البلاغة ووسائل الإعلام“، ويلقي الضوء على أهمية دور الإعلام التلفزيوني وكيف دفعت الأزمة الشعب الايطالي للعودة إلى الأخبار التلفزيونية لأنها موثوقة ومختارة وفق معايير احترافية أدق من معايير اختيار الأخبار التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي التي تمتزج فيها الأخبار الموثوقة مع الأخبار المزيفة في الكثير من الأحيان. والفصول الأخيرة من الجزء الأول تتناول دور ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعد مصدرًا للكثير من الكلمات الشعبية الجديدة. وتدرس بعض مقالات الكتاب لغة الأزمة في دول أخرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة وأمريكا وألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة، من خلال تحليل أسلوب الخطابات الرسمية التي ألقاها الرؤساء وكبار ممثلي الدول. والجزء الثاني من الكتاب يدرس الجانب الاجتماعي المتعلق بلغة التواصل في زمن الأزمة ويدور حول مفهوم الـ“إنفوديميا“ أي ”وباء التضليل“ والتداعيات الاجتماعية الناتجة عن انتشار الأخبار المزيفة، ثم يقدم تحليل الموازنة الصعبة بين ضرورة السيطرة والمراقبة التكنولوجية على الشعب لمكافحة العدوى والحفاظ على حريات المواطنين.
وتعد هذه المبادرات البحثية الرائدة في غاية الأهمية لإدارة الأزمة الصحية الحالية، لأن وضوح وشفافية وفصاحة الخطاب الرسمي هي عناصر ضرورية لنقل الرسائل بشكل صحيح ومفهوم. وإذا اُستعملت اللغة بشكل غير سليم، قد تصبح ”فيروسًا“ تصاب به المجتمعات، وتعود هذا الاستعارة إلى الروائي الأمريكي وليم بورو، من جيل كتاب ”البِيت“، وخاصة إلى روايته ”التذكرة التي انفجرت“ (1962) ومقاله «عشر سنوات ومليار عام« (1986). تخيل الكاتب الأمريكي أن “اللغة فيروس“ يجعل الإنسان عاجزًا عن الصمت، وخاضعًا لحاجة ملحة إلى الكلام، مما يؤدي إلى اضطرابات مستمرة في التواصل واستغلال البعض لهذه الاضطرابات لفرض وجهات نظر معينة وللتلاعب بالعقول. وكلما زاد الخطاب الرسمي في وقت الأزمة وضوحًا وشفافية، كلما زادت ثقة الشعوب في ممثليهم من القادة السياسيين والخبراء العلميين. وأسلوب الخطابات الرسمية والأخبار الصحافية والتلفزيونية في زمن الأزمة قد يسرع إيقاع خطوات المجتمع في سبيل النجاة أو في سبيل السقوط. وبهذا الصدد تأتي مرة أخرى كلمات بابا الفاتيكان في صلاة الغفران، والمباركة لروما وللعالم في 27 مارس الماضي، عندما تلا دعاءه ”من الخداع والتضليل والتلاعب بالضمائر، نجنا يا رب“.
كما اجتاح فيروس كورونا حياتنا اجتاح أيضا ألسننا وأساليبنا في الكلام، واجتاح حتى لغة الجسد والوجه، فحلّت الكمامات محلّ الشّفتين في الحوار، وأصبح احتكاك الأكواع هو الصّيغة الجديدة للمصافحة.

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *