عيسى بدون أب..

تقنية الاستنساخ الجسديّ (CLONING) تقرّبنا من إمكانيّة الولادة بدون اتّصال جنسيّ 
بقلم الدّكتور خالص جلبي

مازلت أتذكّر تلك المناقشة الّتي كانت تدور أمام ناظري في النّادي الأدبيّ في القامشلي بين مسلم كرديّ ومسيحيّ ماردليّ حول المسيح. النّصراني يرى في المسيح الرّبّ الّذي ينبت الزّرع والضّرع، ويدير الأفلاك، ويخلق الأجنّة في الأرحام. والمسلم كان يقول بكلّ بساطة إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون (آل عمران ـ 59).

كنت أسمع بشغف لقوّة حجّة الكرديّ المسلم وكأنّ الآية أسمعها للمرّة الأولى، ومنه فهمت أيضاً لماذا كان رسول الرّحمة ص أحياناً يطلب من آخرين أن يتلوا على سمعه آيات بيّنات؟ فيقول الصّحابيّ أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ فيقول رسول الرّحمة ص ولكنّي أحبّ أن أسمعه من غيري. وحين يصل الصّحابيّ إلى آية: فكيف إذا جئنا بكلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً (النّساء 41) يلتفت الصّحابيّ ليرى النّبيّ وقد ملأت الدّموع خدّيه. كانت الآية من الثّقل أن انحدرت دموع التّأثّر. ثمّ ساقتني الأيّام أن أعشق القرآن فأحفظه والأنجيل فأتدبّره، ولكنّ قوّة الحجّة جاءت من تقنيّة الاستنساخ الّتي قام بها الطّبيب البيطريّ (إيان ويلموت) من اسكتلندة فقرّب إلى أفهامنا أن تلد نعجة بدون أب ولكن من ثلاث أمّهات. 
الاستنساخ الإنسانيّ لايعني خلق الإنسان أوّلاً، ولايعني بعث رمسيس الثّاني أو توت عنخ آمون في قيامة قبل القيامة، كما لايعني تدمير الأسرة، وتمزيق القانون، وإفساد الأخلاق، كما رأينا في وهج المحطّات الفضائيّة الّتي تسري بسرعة الضّوء، ترفع عصا القانون، ومواعظ الأخلاقيّين، تلوّح بمخاطر التّقدّم العلميّ، الّذين لم يعرفوا بعد ماذا يجري على وجه الدّقّة في بطون المخابر، الّتي تركت أنابيبها وقدورها وأنابيقها، ونزلت الى الطّبيعة تعانقها، وترسم خارطة جديدة للبيولوجيا والحياة؛ فالإنسان كان يتداخل حتّى اليوم على الطّبيعة، أمّا الآن فبدأ في التّداخل على طبيعته بالذات. 
كلّ مافعله العلم هو قفزة نوعيّة جديدة في تقليد الطّبيعة ماتفعل، فكما سارت سنّة الخلق بالتكاثر والانقسام، فقد استطاع الذّكاء الإنسانيّ بالالتفاف على القانون فدفعه في مجرى مختلف، فلم يتمّ التّعامل مع القانون بإلغائه، بل بالتعامل مع صرامته السرمديّة بقانون آخر، فكما ندفع النّهر في غير مجراه، ونحبس الصّاعقة في سلك، أمكن للعلماء دفع خيوط المادّة الوراثيّة للالتحام ببويضة نزعت منها مادّتها الوراثيّة، فهي تتلمّظ فاغرة فاهها لاستعادة توازنها البيولوجيّ، فتمّ إقناعها أنّ مادّتها الوراثيّة الّتي سلبت منها قد عادت إليها، فرددناها إليها كي تقرّ عينها ولاتحزن. 
استطاع الإسكتلنديّ (إيان ويلموت) أن يقوم بتوليد الخاروف (دوللي DOLLY) الّتي أصبحت أشهر من نار على علم، كنجمة عالميّة تتزاحم كاميرات الصّحفيّين حولها، وهي تحدّق فيهم بذهول وفضول، تحرس بأشدّ من دكتاتوريّ العالم الثّالث، على مدار السّاعة، ويراقب معهد روزلين بأشدّ من مراقبة مراكز السّيلو لإطلاق الصّواريخ النّوويّة، ويفحص العشب الّذي يقدّم إليها، خوفاً من السّموم، بأشدّ من فحص الحساء الّذي كان يقدّم لستالين. وكلّ هذا مبرّر ومفهوم لأنّ العصر القادم هو عصر بيولوجيا المخابر؛ فكلّ ثروات العالم هنا، في المفاعلات البيولوجيّة الجديدة، بما هو أثمن من بحيرات البترول، ومناجم الذّهب، وجبال الألماس. ولكن كيف جاءت النّجمة البيولوجيّة (دوللي) بدون أب واحد إلى العالم ولكن من ثلاث أمّهات: جاءت المادّة الوراثيّة من الأولى، والبيضة المفرّغة من المادّة الوراثيّة من الثّانية، والرّحم المستأجر من الثّالثة‍‍!! وهكذا قفز العلم عتبة التّكاثر عن طريق الجنس، ليتمّ الإنجاب لأوّل مرّة في تاريخ الحياة بدون جنس، فبعد أن دشّنت الحياة منذ نصف مليار سنة، وسيلة وحيدة للتكاثر، تمّ الآن شقّ وفصل كلّ ترابط بين الجنس والإنجاب، فيمكن إنجاب طفل الى الحياة، من جسم الأمّ، أو جسد الأب، بدون الحاجة للتزاوج واتمام العلاقة الجنسيّة كشرط للإنجاب، فتحرّرت المتعة الجنسيّة من كلّ إشكاليّات الحمل وعنته، ويجب أن لانفزع إذا حصل، فإذا تدخّلت جراحة الجينات، الّتي ستبدأ نشاطها مع انتهاء مشروع الجينوم البشريّ، لفكّ مغاليق الشّيفرة الوراثيّة عند الإنسان، عندها سيحمل كلّ واحد منّا (ديسك كمبيوتريّ CD) فيه كافّة المعلومات عنّا، وهكذا نكون قد أمسكنا بالإنتاج الإنسانيّ تحت مراقبة صارمة، مرغوب بشدّة، منتقى بعناية، مفحوص ومراقب وفق بيولوجيا صارمة، فلم يعد للصدفة إلّا الدّور الهامشيّ. كلّ ذلك مع جراحة جينيّة لإبعاد الأمراض الوراثيّة ولو بالاستعداد، كما تحوّلت أجسامنا بهذه الطّريقة الى ماكينة إنتاج لأعداد لانهاية لها من أشكالنا، لتخليدنا البيولوجيّ. 
اختلفت طريقة التّكاثر الجسديّة عن كلٍّ من طريقة التّكاثر العاديّة الّتي تعتمد تزاوج الذّكر والأنثى، وعن طريقة الاستنساخ (الجنسيّ) عندما أوقفت عمليّة تكاثر البويضة الملقّحة عند مرحلة الانقسام الرّابع بالذات، قبل أن يصبح عدد الخلايا 16 ووقف عند مجموع ثمانية خلايا فقط. 
استطاع الاستنساخ (الجنسيّ) أن يدفع بواحدة لتشكّل مخلوقاً كاملاً، والاحتفاظ بالخلايا السّبع المثاني، إماّ في التّجميد لدفعها الى الحياة من جديد، كما يحصل في مشروع البنك الخلويّ الأمريكيّ، حيث يتمّ الاحتفاظ بالخلايا في النّشادر السّائل 160 درجة تحت الصّفر؛ فيمنحها قدرة الحياة لمدّة 10000 عشرة آلاف سنة، وإمّا إنتاج ثمانية نسخ متشابهة متطابقة، كما تنتج العجول والخرفان اليوم، حذو القذّة للقذّة، في جرس الصّوت والبصمة وتعبيرات الجسم وتكشيرة الوجه واستقامة الأنف ولون العينين. 
وإذا سمعنا بإنتاج نسخ (فوتوكوبي) إنسانيّة فيجب أن لانصدم؛ فالعلم لايعرف المستحيل. المستحيل هو في عقولنا فقط، أو هو أمر نسبيّ حسب تعبير عالم الكوانتوم (ميشيو كاكو) بسبب بسيط لأنّ الكثير من المستحيلات هي صور ذهنيّة لا أكثر، فالانسان يسبح في اللّحظة الواحدة بين الممكن والصّعب والمستحيل، ولكنّ المشكلة أنّه لايعرف الفروق الواضحة بين هذه الحدود الثّلاثة. 
وهكذا اقتربنا من المغزى الفلسفيّ لولادة عيسى بدون أب، وبعث القاعدة البيولوجيّة عند الإنسان من عظم عجب الذّنب، وتمكّن العلم من منح الحمل لامرأة تجاوزت السّتّين، بزرع الرّحم عندها ببويضة مجهولة، قد لقّحت بحيوانات منويّة من زوجها، فأقبلت في الوضع في صرّة وصيحة عظيمة تقول: ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب. نعم إنّ العلم يطلعنا كلّ يوم على العجيب والخلّاب الى درجة الأسطورة. 
العلم اليوم يتقدّم بخطوات جريئة لاختراق حقول معرفيّة جديدة، ودمجها في شبكة متضافرة محكمة من العلاقات، تعطي قوّة أداة معرفيّة متطوّرة متراكبة، للانتقال الى حقل جديد، في حركة تراكم وتصاعد علميّ لايعرف التّوقّف، وقل ربّ زدني علماً؛ فطبيعة العلم تراكميّة بطيئة، تتخمّر فيها العلاقات الدّاخلية؛ لتنتج علاقات جديدة، فالفيزياء تؤثّر على الموسيقى، والجغرافيا على التّاريخ، والفلسفة على العلم، وبالعكس؛ فالحياة لاتعرف التّمزّق والشّرذمة والتّفرّق، كما تفعله مخابرنا، حينما تريد إيقاف فيلم الحياة وتأمّله صورة صورة، بحيث يضيع المغزى الكبير للفيلم، فحتّى يتمّ إدراكه لابدّ من رؤيته متتابع اللّقطات متواصل المناظر، ولكن الحياة معقّدة بحيث لاتستطيع ولامجموعة علميّة استعراضها على شكل شريط الفيلم، فهي حوض كبير تتفاعل فيه الحقائق، ومن حين لآخر تطفو على السّطح حقيقة جديدة تلفت الأنظار وتشدّ الانتباه وتبهر العقول، لترجع بعدها عاديّة روتينيّة تتفاعل وتولد حقائق جديدة ومعطيات متقدّمة، في نهم لايعرف التّوقّف أو الاستحالة، وهو الحاصل مع مشكلة الاستنساخ الجسديّ. 
العلم اليوم يشقّ الطّريق الى مجموعة جديدة من الفضاءات والإنجازات المعرفيّة، من جراحة الجينات (GENSURGERY) وعلم اليوجينيا الجديدة (UGENIA) والجراحة عن بعد (TELESURGERY) وحفريّات الجينات (PALEOGENETIC) والاستنساخ (CLONING) والهندسة الوراثيّة (GENEGINEERING) ومشروع الجينوم البشريّ الّذي فكّ الشّيفرة الوراثيّة والّذي يسمّى اختصاراً مشروع هوجو (HUMAN-GENOM-PROJECT=HGP)، ومشروع البنك الخلويّ الأمريكيّ (AMERICAN-TYPE-CULTURE-COLLECTION=A.T.C.C.). ومن مزيج هذه العلوم وتضافرها سيتمّ توليد علوم جديدة. جراحة الجينات ستمكّننا من التّداخل على إنتاج بشر بدون أمراض أو هكذا نطمع وقد تمنحنا فهم سرّ تطويل الحياة، والاستنساخ سيمنحنا إنتاج خيول رشيقة، أو العجل جو الّذي بيع في أونتاريو بـ 2,5 مليون دولار، أو البقرة هانوفر الّتي تدرّ من بين فرث ودم لبنا خالصاً سائغاً للشاربين بمقدار 150 طناً سنويّاً، أو سمك السّلمون الّذي تمّت معالجة الجينات عنده، بزرعه بجين من سمك البقلاة بحبث يكبر حجمه خمسين مرّة خلال سنة واحدة. 
لاحدود للبحث العلميّ، ولاخوف من قفزاته بما فيها التّحوّلات النّوعيّة؛ ولاخوف من التّفكير، فالتفكير قاعدة الإيمان وإداته المعرفيّة، لشقّ الطّريق الى فضاءات معرفيّة لانهائيّة، ولكنّ الخوف كلّ الخوف من إغلاق العقل، ومصادرة الفكر، وممارسة الإرهاب عليه، ولاحاجة لإعلان الوصاية الأخلاقيّة على العلم فهو يمشي بقوّته الأخلاقيّة الذّاتيّة، فيحوّر ويحرّر الإنسان والعالم.

 

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *