الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / كيف يقبل العقل أن نطوف حول حجر؟!

كيف يقبل العقل أن نطوف حول حجر؟!

يعرف الأطفال هذا الشّعور أكثر من أيّ أحدٍ آخر؛ أن يجبَروا على فعل ما لا يفهمون مغزاه؛ يحتجّون بالصراخ، بالبكاء، برمي أنفسهم إلى الأرض، بتلويح أقدامهم وأيديهم في الهواء، شعورٌ مريرٌ جدًّا أن يكون عليك أن تفعل شيئًا لا تفهم الجدوى منه.
العقل أكثر مخلوقات الله غرورًا؛ و”حين وُزِّعت الأرزاق لم يرض أحدٌ بما وُهِب، لكن حين وزّعت العقول رضي كلٌ بعقله”. هذا ما يقوله المثل الشّعبيّ.

المخلوق الأكثر غرورًا

 نحن لسنا راضين عن أشكالنا وأوزاننا ودخلنا الشّهريّ ومكان إقامتنا ووضعنا الاجتماعيّ؛ لكنّ كلّ واحدٍ منّا راضٍ تمامًا بعقله، بل إنّه مقتنعٌ بأنّه وحده الّذي يرى الحياة من الزّاوية الصّحيحة.

نحن نعتزّ بعقولنا الّتي نشعر بها كعالمٍ مهولٍ ممتدّ إلى الوراء خلف أعيننا، نحمله معنا أينما ذهبنا.

 نحن لا نرى عقولنا، ولكنّنا نشعر بأنّها العالم كلّه، بأنّها الحقيقة المطلقة، لأننّا بها وحدها ندرك هذا العالم الشّاسع الموغل في القدم وفي الزّمان وفي المكان.

نحن نظنّها إبداعًا من عند أنفسنا، بأنّنا نحن من خلقناها لأنفسنا وما هي في الحقيقة إلّا هبة من الخالق.

ما أبرع العقل في الخداع!

والعقل ماهرُ جدًّا في الخداع ليمنحك الشّعور بأنّكَ ـ أنتَ الذي لم تُخلق على هذه الأرض إلّا منذ برهة، وسترحل عنها بعد برهة ـ بأنّك أنت مركز هذا الكون الشّاسع؛ ترى كلّ ما فيه يدور حولك، وتقبل منه فقط ما يرضي عقلك، وترفض ما يرفضه.

والمشكلة أنّنا كلّنا نفكر بذات الطّريقة، من الأمّيّ الجاهل إلى أعظم الفلاسفة؛ كلاهما لديه القدر نفسه من الثّقة بعقله.
وعقولنا المخادعة تمنحنا وهمَ التّفوّق على جميع من حولنا، فهم جميعًا مخطئون لأنّهم لا يفكرون مثلنا.
وتمنحنا وهم الألوهيّة؛ فنحن قادرون على فهم كلّ شيء، على تفسير كلّ شيء، على إيجاد الأجوبة لكلّ الأسئلة الصّعبة.

الرّحلة الوعرة

وهنا تبدأ الرّحلة الوعرة، رحلة الأسئلة، وحينها فقط يدرك العقل عجزه وضعفه وضآلته حين يجد كلّ إجابةٍ جديدةٍ تفضي إلى ألف سؤال آخر.

عندها فقط يدرك تفاهته أمام هذا الكون الشّاسع، ويستشعر وجود من هو أكمل منه وأعظم، مَن هو قادرٌ على الإجابة عن جميع الأسئلة الصّعبة، علّة كلّ شيء، الّذي إليه تنتهي جميع الأجوبة؛ نهايةٌ حتميّة ينتهي إليها كلّ ذي بصيرة.
فبهذا العقل المتجبّر العنيد المغرور نفسه يصل الإنسان إلى الله، وهنا يبدأ امتحانه الأصعب، أصعب امتحان يواجه الإنسان في تاريخ البشرية بأكمله؛ أن يهدم صنم عقله في داخله!
فليس يُشرَك مع الله أحدٌ، وهذا “الإله الصغير” الذي يحمله كلٌّ منا في داخله يجب أن نحطّمه بأيدينا حينَ يتطاول برأسه على الإله الأوحد الأعظم حتى نثبت عبوديّتنا الخالصة له سبحانه.

وكيف يكون ذلك إلّا بأن نروّض عقولنا على الاستسلام لطاعةِ خالقها، بأن نكفّ عن عبادتها وتأليهها، بأن نعيد هذا المارد المغرور إلى قمقمه ونعترف بخسارته أمام عظمة الإله.

أجب أيّها العقل!

يا أيّها العقل المتجبّر الّذي يدّعي القدرة على فهم الكون كلّه ولا ينصاع إلّا لما يرضيه ويقنعه هيّا قل لي:

ما الّذي يراودكَ حينَ تحرم نفسك من النّوم لتقوم فجرًا فتغسل وجهك وكفّيك وكعبيك وتمسح رأسك بالماء، ولكن!! لم مسح الرّأس؟ ولم إلى المرافق وليس إلى الرّكب؟
ثم تقف باتجاه القبلة، ولم القبلة وليس الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب؟!
ثم تقيم الصّلاة فتركع وتسجد وتمرغ رأسك بغبار الأرض مرتين أو ثلاث أو أربع، ولكن لم الفجر ولم الظهر ولم العشاء؟ ولم الركوع والسجود؟ ثم لم الحرمان من الطعام والشراب؟ وأي مغزى في الحجاب؟

 ثمَّ لمَ الدوران كالحيارى حول بناء عتيق؟! لم السعي كالتّائهين بين الصفا والمروة؟ وأي جدوى من رمي الحجارة على لا شيء؟ وأي معنى في تقبيل حجر أسود؟!
إنّ العقلَ لا يفهم، لا يدرك المغزى، يرفضُ، يحتجّ؛ يستيقظ الطفل العنيد، يبدأ بإلقاء نفسه إلى الأرض، بالصّراخ الغاضب، بالتّلويح بالأيدي والأقدام في الهواء، فما أصعب هذا الامتحان، إنّه أصعب ما يمكن أن يُطلب من الإنسان منذ فجر البشرية.

لبّ الامتحان

إنّ العقل لا يريد أن يفعل ما لا يفهم له مغزى، هو يظنّ نفسه إلهَ نفسه، إلهَ هذا الكون.

يريد أن يفهم أولًا، يريد أن يعرف لماذا، لكن لبّ الامتحان ألا يفهم، لبّ الامتحان أن يستسلم ويُسلّم، فيفعل ما يؤمر به دون الحصول على أجوبة. لبّ الامتحان أن يؤمن بالغيب، بما لم يره ولم يسمعه وليس له عليه دليل، بالجن والملائكة والجنة والنار واليوم الآخر.

هنا فقط يظهر التّسليم للخالق الذي أوصلك إليه عقلك؛ أن تركع على ركبتيك ثم تسلّم له نفسك.

أن تهدم أصنامك الذّاتية، ألا تشرك مع الله عقلك، أن تعبد وتستسلم!

“وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ”
قولوا “حطة”!!!، وكم كان على بساطته امتحانا كبيرا!! أن تقول حين تدخل باب المقدس “حطة” دون أن تفهم لم عليك أن تفعل ذلك، لم “حطة” وليس شيئا آخر مثلا؟!

هذه الآيات تلخّص القصّة كلّها، قصة اغترار الإنسان بعقله، قصّة هذا العنيد الذي يرى نفسه إلهَ نفسه.

قصّة الإنسان الذي ينظرُ للمؤمنين على أنهم سلّموا عقولهم للأديان بينما هو حرّر نفسَه من كل ما لم يقتنع به، دون أن يدرك أن هذا هو لب الامتحان، وأن غلطة إبليس كانت ألا يسجد لمن “يعتقد” بعقله أنه خير منه، وأن غلطة بني اسرائيل كانت أنهم لم يقولوا “حطة”! ولكلّ منا “حطته” التي لا يريد أن يقولها!!

ديما مصطفى سكران

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *