الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / رواية “زمن الخراب” لمحمود شاهين

رواية “زمن الخراب” لمحمود شاهين

الكاتبُ يُعرِّف روايتَه بـ “رواية فكريّة تاريخيّة اجتماعيّة”، وهذا ما يجعلنا نتعاطى مع الرّواية ضمن هذا التّعريف، ومن يتابع الأعمال الرّوائيّة “لمحمود شاهين” سيجدها أعمالاً تتباين مع ما هو سائد، فهو يعتمد على (الرّواية الفكريّة) الّتي يقدّم من خلالها أفكاره ورؤيته عن الحياة والوجود والخلق والخالق، لكنّه يبقى محافظاً وملتزماً بطبيعة وشكل الرّواية.

واللّافت في الرّواية أنّ الكاتب هو نفسه السّارد، وقد أشير إلى هذا الأمر في أكثر من موضع في الرّواية، فهو يزيل التّباين بين الكاتب والسّارد، ويجعلنا نتحدّث بوضوح عن الكاتب وليس السّارد، والأرض/ الجغرافيا الّتي ينطلق منها الكاتب هي (عمّان) ولكنّه يستحضر دمشق والقدس في أكثر من موضع، وإذا كانت “عمّان، دمشق” مدينتين عامّتين للجميع، فإنّه يتحدّث عن المكان الخاصّ، البيت، الّذي لم يكن فقط للمنام والرّاحة بل كان المرسم للوحات الكاتب، والمكتب لرواياته.
والرّواية تتحدّث عن أفكار غير مألوفة لنا، والّتي سنأتي على تناولها لاحقاً، كما أنّه يقدّم موضوعاً اجتماعيّاً نفسيّاً (علاقة جنسيّة بين الأب وابنته) ويعالجه بطريقة غير معهودة، فبدا الكاتب وكأنّه طبيب نفسيّ، استطاع أن ينهي تلك العلاقة المحرّمة والشّاذّة ـ رغم طول الزّمن الّذي مُورست فيه، ورغم أنّها أصبحت عادة عند الطّرفين ـ من هنا نقول أنّنا أمام زمن الخراب، خراب المجتمع والحكومات وخراب الأفراد والأسرة.
المكان:
كلّ من هُجِّرَ من وطنه مكرهاً يبقى المكان عالقاً في ذاكرته ووجدانه، وهذا الأمر أصبح سمة الأدب الفلسطينيّ، الّذي يكاد أن يكون (ذكر وحضور المكان) عامّاً في كلّ ما ينتجه الفلسطينيّ من أعمال أدبيّة، قبل أن يلحقه الأدبان العراقيّ والسّوريّ، والكاتب يجمع بين ارتباطه بالمكان العام، المدينة، وبين المكان الخاصّ، البيت، فهما يأخذان عين المكانة والأهمّيّة: “لم يفكّر حتّى حينه في ترك بيته مهما حدث، كان يفضّل الموت على مغادرته، ففيه يكمن نسيج روحه ودفق مشاعره وأحلامه، عقله، ذاكرته وذكرياته، مؤلّفاته ومخطوطاته، لوحاته ومنحوتاته، تحفه ومقتنياته، مكتبته الهائلة الزّاخرة بأهمّ الكتب الّتي يحتاج إليها، …دمشق المدينة الّتي فضّل العيش فيها على أجمل مدن العالم، هل سيترك دمشق؟ محال! بل مستحيل.
.. آه يا دمشق، آه يا حزني الكبير، كانت دمشق بالنسبة إليه أمّه بالرضاعة، كما كان يقول في بعض حواراته الصّحفيّة، أمّا القدس فلم تكن إلّا أمه بالولادة، لكنّها لم ترضعه قطرة من حليبها، ولم يعرف طعمه، رغم محبّته لها.
دمشق هي من ألقمته ثديها منذ أن لجأ إليها، ومنحته كلّ حنان الأمومة، وأغدقت عليه معرفتها الشّاملة، حتّى كوّنت شخصيّته (ص4 و5، مقطع ليس بحاجة إلى تفسير/توضيح مكانة دمشق وعلاقة الكاتب/ السّارد بها، فقد أعطاها صفة الأمّ، وهذا لوحده كاف لتأكيد العلاقة الوطيدة الّتي تجمعهما، كما أنّه يتحدّث عن بيته، مرسمه، مكتبه، مكتبته، فالعلاقة حميمة ووطيدة، وفي الوقت نفسه علاقة متنامية، فدمشق هي من صقلت وساهمت في تشكيل وبناء شخصيّة محمود أبو الجدايل).
والكاتب لا يتعاطى مع المكان من الخارج، بل إنّه يعرفه بكلّ تفاصيه وأزقّته: “خرج من عند الصّرّاف ليعود إلى البيت، ولم يعرف كيف وجد نفسه يسير في اتّجاه المسجد الأمويّ، مع أنّه كان يجب أن يسير في الاتّجاه المعاكس، حتّى لم يدر في خلده وهو يجتاز الحريقة ويدخل البزورية مارّاً بقصر العظم، أنّه يودع الأماكن الّتي عاش فيها وألفها، وربّما يودّعها لآخر مرّة ص10، إعطاء مثل هذه التّفاصيل لم يأت من عبث، بل جاء ليؤكّد ـ العقل الباطن ـ للكاتب، العلاقة الّتي تجمعه/ تربطه بالمكان، وأعتقد أنّ استخدامه في هذا الفصل صيغة السّارد/ الآخر وليس أنا المتكلّم تؤكّد على هذا الأمر، فالكاتب لم يستطع أن يتحدّث عن نفسه ـ كما هو الحال في بقيّة الفصول الّتي تتحدث/ تتناول الأحداث، لكنّه فقط عندما يتحدّث عن المكان يستخدم صيغة السّارد/ الآخرـ لهذا وجد الحديث عن (الآخر) يمنحه شيئاً من الرّاحة والقدرة على كتابة ألم مغادرة دمشق والبيت.
وهذا ما أكّده لنا في هذا المشهد: “… رغم أنّه طوال عمره يحسّ ويعيش الحياة كفلسطينيّ، إلّا أنّه ولأوّل مرّة راح يشعر بأردنيّته، في مقابلات صحفيّة معه كما سبق، كان يذكر دمشق أكثر ممّا يذكر عّمان ” إذا كانت القدس أمّي بالولادة فدمشق أمّي بالرضاعة، فقد عشت فيها أكثر من أربعين عاماً كوّنت فيها ثقافتي وشخصيّتي وكتبت مؤلّفاتي ورسمت قرابة عشرة آلاف لوحة، ولم أعش في القدس إلّا قرابة عشرين عاماً في بداية عمري، أمّا عمان فلم أعش فيها إلّا أقلّ من ثلاثة أعوام ص23، في هذا المقطع نجد استخدام صيغة السّارد/ الآخر وصيغة أنا المتكلم، وهذا يعود إلى الكاتب بعد أن غادر دمشق، لم يستطع أن يتحدّث عنها بحياديّة، فاستخدم صيغة السّارد/ الآخر، واقتبس من حديث صحفيّ ما يشعر به تجاه الأمكنة، فجاءت المعلومة وكأنّها غير متعلّقة مباشرة بالكاتب، بل ضمن سرد السّرد، وبهذا يكون “محمود أبو الجدايل” قد كشف علاقته الحميمة بدمشق، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بحيث تصل الفكرة للقارئ من خلال السّرد، ومن خلال شكل وطريقة تقديم السّرد.
عمّان لم تكن دمشق، فالمدينة الغارقة في القديم ليست مثل المدينة الحديثة، فأصحاب الدّكاكين وسكّان الحارات في دمشق القديمة كلّهم يعرفون “محمود أبو الجدايل” ويعرفهم، لكنّه في عمّان غريب/ دخيل: “أمضى محمود قرابة ساعتين دون أن يبيع شيئاً.. أعاد اللّوحات إلى حقيبتها وانصرف يجرّ شيخوخته وثقل أحزانه ولوحاته، بخطا متهالكة وصوت يصرخ في دخيلته:
“متى تدرك أنّك مشرّد في عمان ولم تعد في دمشق، متى؟  ص65، وكأنّ السّارد يؤكّد على تباين عراقة المدن، فدمشق الّتي يعمّها السّوّاح والمهتمّون بالفنّ، تفتقدها عمّان، واللّافت أنّ السّارد عندما يريد أن يتحدّث عن ألم مفارقة/ الابتعاد عن المكان يستخدم صيغة السّارد، وكأنّه بهذا يريد أن يفصل/ يبعد نفسه عن “محمود أبو الجدايل”.
“شعر بأنّه بحاجة لأن يمشي، لعلّه ينسى أو يتناسى ما يحدث في سوريّا، لعلّه ينسى بيته الجميل في دمشق، البيت المتحف/ الأقرب إلى قلبه من كلّ بيوت العالم لما يحويه من فنون وتحف ومؤلّفات ومكتبة زاخرة بالكتب القيّمة ص77، هل لهذا التّكرار من مبرّر؟ أم أنّه جاء (زخرفة) زائدة للرواية؟، كما قلنا في البداية، إنّ العلاقة الّتي تربط الفلسطينيّ بالمكان علاقة غير عاديّة، فهو يجد نفسه وكيانه في المكان، بصرف النظر أن كان هذا المكان في فلسطين أو في دول الجوار، فهو والمكان الرّوح والجسد، لهذا نجده دائما يستحضره ويستعين به ليتجاوز أزمته، فندب المكان وحال الّذي وصل إليه بطل الرّواية، يمنح السّارد/ الكاتب شيئاً من الرّاحة ليكمل روايته، عمله الأدبيّ، من هنا نجد (تكرار) النّدب والحسرة على البيت ودمشق.
الكاتب يستخدم الخيال في الرّواية، وهو يعترف بأنّه بالخيال يهرب من الواقع، فكلّما تضيق عليه الحياة والمحيط يتّجه إلى العالم المتخيّل، لكنّه أيضاً في عالم المتخيّل (يهذي بدمشق): “… وانتفض في الأجداث رميم العظام، وأطلّ على الأكوان نور نبيّ، وأشرق في السّحاب وجه يسوع، وخيّم على السّماء جلال العذراء، وهتفت باسم دمشق الجراحات… فالتعجت في جروح دمشق اللّواعج واعتلج في قلوب الملحدين المؤمنين والمؤمنين الملحدين اللّعاج” ص105، إذن دمشق حاضرة حتّى في هروب الكاتب من واقعه، وهذا ما يجعلنا نقول أنّ المكان/ دمشق والكاتب هما كائن/جسد واحد، لا يمكن الفصل بينهما.
انتماء الفلسطينيّ وتعلّقه بالمكان وبمن قدّموا له العون لا يمكن أن يكون عابراً، حتّى في حالة الفرح والنّشوة نجده يستحضر الّذين عاش بينهم ومعهم، عندما يكون “محمود أبو الجدايل ولمى” في جلسة ملوكيّة في أحد متنزّهات البحر الميّت، وتحضر لهما مائدة ملوكيّة تكفي لعشرين شخصاً، نجد “محمود أبو الجدايل” يستذكر سوريّا وأهل سوريّا: “أتذكّر المشرّدين والفقراء، كلّما عشت لحظات مترفة، وحزين جدّاً على الشّعب السّوريّ، لا استطيع أن أنسى مأساته، أصبحت تقلقني أكثر من المأساة الفلسطينيّة” ص293، وأجزم أنّ هذا الموقف يتجاوز الموقف (الإنسانيّ) فهو يؤكّد على اجتماعيّة أبو الجديل وانصهاره في المجتمع السّوريّ، حتّى أنّ الألم الحاصل الآن للسوريّ جعله يقدّمه على وجعه وألمه الفلسطينيّ القديم، هذا هو الفلسطينيّ وهكذا هو انتماؤه.

الفلسطينيّ:
هناك مأساة للفلسطينيّ/ للكنعانيّ تكرّرت منذ آلاف السّنين، فكلّما يأتي الخصب/ البعل يلحقه الموت/ يم ويزيل الخضرة عن الأرض ويحزن النّاس، وكلّما أنجز عملاً يتبعه الخراب، يلخّص لنا “محمود أبو الجدايل” هذه المأساة: “البطل الفارس، الّذي يحارب بشجاعة ويحقّق الانتصارات، لكنّه يهزم ويُستَشهد في النّهاية، وكأنّ القدر قد رسم له مسبقاً هذه النّهاية التّراجيديّة، وهذه هي حال البطل الفلسطينيّ بدءاً من جليات التّوراتيّ وانتهاء بياسر عرفات” ص26و27، فهو بهذا المقطع لخّص تاريخ فلسطين ومسيرة الثّورة الفلسطينيّة، منذ ثورة الظّاهرعمر وحتّى الآن، فرغم العطاءات العظيمة والإنجازات، إلّا أنّ النّهاية تكون محزنة وبائسة، “فأبو الجدايل” الّذي كان أحد أعلام دمشق ويعيش بواقع طبيعيّ/عاديّ ها هو نكرة في عمان، يعمل ليتّقي شرّ التّشرّد والجوع، فالبناء والإنجاز اللّذان تحقّقا في دمشق انهارا، وكان عليه أن يبدأ من الصّفر، هذا حال الفلسطينيّ/ الكنعانيّ.
الأمّ والأب:
غالبيّة الكتاّب يقدّمون الأمّ بصورة جميلة/ إيجابيّة، بينما يقدّمون الأب بصورة سلبيّة، أو يغيّبونه ويهملون حضوره، “محمود أبو الجدايل ولمى” يؤكّدان على هذا التّقديم: “آه يا تعبي! آه يا أمّي الّتي لم أرها منذ تهويد القدس! آه يا أمّي الّتي رحلت دون أن أراها، دون أن تراني! ماذا سأفعل بحقّ السّماء؟” ص17، الكاتب يستعين بأمّه من خلال تذكّرها وتذكّر الألم الّذي حصل له ولها، وهذا يشير إلى تعلّقه ومحبّته لها.
وهذا ما جاء حتّى في التّخيّل، عالم الخيال: “همست الملكة له متسائلة عمّا بقى في ذاكرته، أجاب أنّه لا يستطيع أن ينسى الحزن ووجه أمّه” ص92، فالأمّ حالة خاصّة واستثنائيّة بالنسبة لـ”محمود أو الجدايل” فهي دائمة الحضور والذّكر.
أمّا لمى فتحدّثنا عن تفاني أمّها في العطاء فتقول: “..أمّي الحبيبة يا محمود دمّرنا أنا وأبي حياتها.. ضحّت بنفسها، وكانت ترفض الذّهاب إلى المستشفيات أو مقابلة أطبّاء حتّى تسترعلينا ولا تفضح عارنا” ص285، بهذا العطاء كانت الأمّ.
بينما نجد الأب يقدّم بصورة سلبيّة، تتمثّل بقسوته وشدّته: “… منذ أن أخرج الأب ابنه من المدرسة ليرعى قطيع الغنم” ص143، فالأب هنا لا يهتم بتعلّم “محمود” ويجبره على رعي الأغنام، وقسوة الأب لم تقتصر على الابن فقط، بل طالت الأمّ أيضا الّتي كانت تعمل في الحقل وهي حامل بوليدها وفي شهرها: “كانت أمّه تحصد في الحقل برفقة أبو الجدايل الأب وآخرين، حين داهمها المخاض”ص57، وتقدّم لمى مأساتها مع أبيها بقولها: “…كم كنت أتمنّى لو استطيع أن اقتل الرّغبة الجنسيّة إلى الأبد، وأن اقطع فرجي وعضو أبي أيضاً” ص285، بهذا يكون الأب يمثّل القهر والسّطوة، بينما تمثّل الأمّ العطاء والحبّ.

“محمود أبو الجدايل” الشّخصيّة المحوريّة في الرّواية، وغالباً ما تحدّث عن نفسها.. وهو شخصيّة واقعيّة، إنسانيّة، لكنّه يأخذنا إلى عالم الخيال والتّخيّل، فيرسم لنا الجنّة وما فيها من نعيم، وأيضا يقدّم لنا مشاهد القيامة وما فيها من أهوال، سنتناول أوّلاً محمود أبو الجدايل الإنسان، الفنّان، الأديب، ونرى كيف تكون مشاعره تجاه الفقد والبعد: “…حتّى ألفى نفسه بطناً على السّرير، وهو يدرك إلى حدّ لم يبلغه من قبل إلى أيّ مدى يعني فقدانه وتركه لبيته ودمشق، تمنّى من الله شيئاً واحداً فقط أن يتيح له أن يبكي، ولم يكد ينهي تخاطره مع الله إلّا والدّمع ينزل من عينيه مدراراً، وراح يبكي ويبكي ويبكي.. يبكي حاله، ويبكي دمشق، يبكي بيته، ويبكي الحياة برمّتها ص41

رغم أنّ السّرد جاء على لسان سارد خارجيّ، إلّا أنّ مشاعر “محمود أبو الجدايل” هي المتكلّمة، فكثرة استخدام الحروف وأسماء الإشارة “حتّى، على، وهو، إلى، لم، من، أي، أن، له، مع، إلّا” والّتي تشير إلى حالة غارقة في الألم والوجع، وأيضا تكرار “يبكي” سبع مرّات يؤكّد على أنّ المقطع جاء من “محمود” وليس من السّارد، وهنا يكون (الكاتب) قد أخفق في التّخفّي وراء لغة السّارد، وكان عليه أن يتكلّم بلغة الأنا، لأنّ اللّغة والمشاعر السّابقة لا يمكن أن تأتي من سارد خارجيّ، وأعتقد أنّ تكرارها “يبكي” سبع مرّات يشير إلى ـ العقل الباطن ـ للكاتب الّذي يعرف قدسيّة رقم سبعة ومكانته الدّينيّة، وما يؤكّد هذا الأمر أنّه جاء بعد حالة إيمانيّة صافية “مناجاته/ تخاطره مع الله” فهو هنا مؤمن ومتوحّد مع الله، لهذا كانت الاستجابة مباشرة وآنيّة.
وهذا يأخذنا إلى أنّ الكاتب يحاول ـ قدر المستطاع ـ أن لا يتحدّث عن مشاعر الألم أمامنا نحن القارئ، ويفضّل أن تأتي هذه المشاعر على لسان سارد خارجيّ، وهذا يشير إلى نفوره من الحديث القاسي/المؤلم، فهو يتوق للفرح، وهذا ما سنجده في أفكاره عندما يحدّثنا عنها، فهو يرفض وينفي فكرة الألم/ العذاب حتّى لأولئك الأشرار، الّذين يعاقبهم بطريقة (مهذّبة ولطيفة): “فقد نَزَّهَ الخالقَ عن العذاب وجَعَلَه محبّةً مطلقة” ص46، “محمود أبو الجدايل” الأديب الفنّان صاحب المشاعر المرهفة يرفض العذاب والتّعذيب، ويتعامل مع الحياة من منظور السّعادة والهناء.
الضّغط الشّديد على “أبو الجدايل” جعله شخصاً قلقاً، أرقاً، متوتّراً، لهذا كان يأخذ حبوب منوّمة، لكنّها لم تكن تفي لتهدئته وتسكينه: ” فهذه الحبوب  لا تنوّم دجاجة، فكيف بمن يحمل كلّ هذا القلق” ص62، وهذه إشارة إلى الأديب الفنّان الّذي يتأثّر بكلّ شيء وبأيّ شيء، فهو يتمتّع بمشاعر مرهفة تؤثّر فيها أبسط الأشياء، فكيف بتدمير وطن وتشريد شعب؟.
وهذا الضغط جعله يتّجه إلى الخيال.. يهرب محمود أبو الجدايل من عالمه الكريه في زمن الخراب هذا، ليعيش مع أحلامه في عالم متخيّل يريح نفسه وينسيه هذا العالم، أصبحت معظم كتاباته في العقود الأخيرة تدور في فانتازيا موغلة في الخيال المطلق، دون أن تتجاهل البحث عن ماهيّة القائم بالخلق ص156، إذن الخيال هو العالم الآخر الّذي يستطيع به الأديب الفنّان أن يكوّن/ يجد ذاته فيه، فقد أرهقته الحروب وأتعبه التّشرّد، وآلمه مشاهدة المهجّرين والمشرّدين.
ولكن هذا العالم المتخيّل لم يكن دائم النّجاح، الواقع بسطوته كان حاضراً وأقوى من التّخيّل: “فلم يكن في بعض الأحيان ينجح في تمثّل عالم متخيّل أو استنهاض دخيلته إلّا لبضع دقائق، ليجد نفسه بعد ذلك يغوص في الواقع من حوله، …يشرع في الكتابة، إمّا عن الحال التي آل إليها العرب في مجتمعات ما تزال ترزح تحت نير التّخلّف والاضطهاد، وإمّا عن رؤيته الفلسفيّة عن القائم بالخلق، في أتعس محاولة لإنقاذ أمّة لا تقرأ، من الجهل المحدق بها” ص165، يعرّفنا “محمود” بنفسه أكثر، فيحدّثنا عن مشاعره تجاه الواقع، والواقع هنا لا يتمثّل بهمومه الشّخصيّة فحسب، بل بالواقع العامّ، واقع الأمّة وهمومها، فهو يحمل همّين، همّه الشّخصيّ وثقل الحياة عليه، وهموم أمّته/ شعبه، ومحاولته التّخلّص من الضّغوط بالحبوب أو التّخيّل، ما هي إلّا تأكيد على نبله وانتمائه لواقعه، فهو ليس بليداً، أو غير مبال، بل إنسان وطنيّ/قوميّ ومنتم، ويعمل فوق طاقته على تبيان وتوضيح حالة الأمّة بكتاباته ولوحاته.
فأعماله الفنّيّة والأدبيّة وسيلته في التّعبير، يحاول بها أن يعالج مشاكلة المادّيّة، وأيضا يكشف مواضع الخلل في الأمّة لتبيّنها ومعالجتها، لكن ليس كلّ ما يصدر عن الفنّان الأديب مبهر: “ثمّة لوحات أحبّها وثمّة لوحات أرسمها بسرعة لأتسلّى، ليس كلّ ما يرسمه الفنّان يعجبه، مع أنّه يعجب بعض النّاس وليس كلّ الناس، والأمر نفسه ينطبق على الكتابة” ص175، وأعتقد أنّ هذه الموضوعيّة في الحديث عمّا يصدره من أعمال أدبيّة وفنّيّة يعدّ حالة استثناء، لأنّ غالبيّة الكتّاب والفنّانين يتعاملون مع إنتاجهم كما يتعاملون مع أولادهم، بمعنى: مهما كانت طبيعة العمل يعتبرونه عملاً يمثّلهم وخارجاً من دخائلهم، فنقده وإظهار ما فيه من مغالاة زيادة أو نقصان يعدّونه تعدّياً وتناولاً شخصيّاً لهم وليس لأعمالهم.
ويحدّثنا عن رؤيته/ نظرته للنساء وكيف يراهن: ” … كنت في الماضي أتخيّل بعض الصّديقات الجميلات اللّواتي لم استطع الوصول إلي قلوبهنّ، غير أنّني مللت من نساء الأرض، فألجأ في أحيان كثيرة إلى نساء من عالم السّماء، حتىّ مع ربّات وملائكيّات وحوريّات…الحبّ مع الرّبّات مسألة خارقة” ص181، اللّافت أنّ “أبو الجدايل” يتحدّث عن أفكاره بحرّيّة ووضوح أمام “لمى” وكأنّها بحضورها وأسئلتها تفجّر/ تحرّك فيه الطّاقة الفكريّة، وتفتح لها الأبواب لتنطلق بحرّيّة ودون معيقات، فتجعله يسهب الحديث، وإذا ما ربطنا حديثه عن النّساء المتخيّلات، بقوله السّابق عن لجوئه إلى عالم الخيال وقت الضّيق، يمكننا الاستنتاج أنّ التّخيّل والخيال جزء حيويّ من سلوك “أبو الجدايل” فهو يتعامل معه بكثرة، فهل أصبح “أبو الجدايل” رجلاً خياليّاً؟ أم بقي رجلاً أرضيّاً يعيش الواقع؟.
“أنا شخصيا بات لديّ عقدة من الحياة الزّوجيّة بحيث أصبحت أنكرها وألغيها من حياتي أحياناً، بعد أكثر من ربع قرن من حياة الوحدة والحرّيّة…أشرت إلى عدم الحرّيّة في مجتمعنا ومحدوديّة اختيار شريكة العمر، الّتي تتمّ بشكل خطأ، وتكون في الغالب نتاج الحاجة إلى الاكتفاء الجنسيّ، وليس بدافع الحبّ كما يعتقد الكثيرون” ص197، تأكيد آخر أن العالم الأفضل عند “أبو الجدايل” هو عالم الخيال، فلم تعد حياة الناس على الأرض وسلوكهم ـ حتّى في مسألة عاديّة/ طبيعيّة، الزّواج ـ تنسجم مع افكار”أبو الجدايل” فطريقة تفكيره تجعله خارج المكان والزمان، رغم حضوره ماديّاً (جسديّاً) بيننا.
طريقة التّفكير الّتي وصل إليها “أبو الجدايل” كانت لها مقدّمات وبدايات ودوافع، يحدّثنا عنها بقوله: “…لكنّ حبّ المعرفة لديّ الّذي رافقني في سنّ مبكّرة لعب دوراً في المسألة، إضافة إلى أنّه أتيح لي أن أتعرّف إلى أشخاص يفكّرون بمنطق وعقلانيّة وعلمانيّة إلى حدّ كبير، رحت أبحث عن نفسي في هذا العالم متعدّد الثّقافات، وأسعى لإيجاد موضع لي فيه.. نمّيت معرفتي وطوّرت ثقافتي بكثرة القراءة والاطّلاع والتّأمّل والتّفكير، …لم أقرأ كتاباً منذ أوائل عشرينيّات عمري إلّا بعين نقديّة” ص 260، بقدراته الذّاتيّة، والتّوقّف عند الأفكار المقدّمة في الكتب. وفي المقابلات الشّخصيّة، استطاع “أبو الجدايل” أن يشكّل/ يكوّن ثقافة/ رؤية/ أفكاراً خاصّة به عن الحياة والكون والمجتمع والمعتقدات، فهو لم يأخذ/ يتعامل مع أيّ نصّ/ أفكار على أنّها مقدسة، بل قابلة للتحليل والبحث، فوصل إلى هذه الفكرة: ” لقد أصبحت على قطيعة شبه مطلقة مع المعتقدات كلّها، وحسمت الأمر بأنّها فكر بشريّ وليس إلهيّاً.. لكنّي لم أحسم فهمي للقائم بالخلق، فكنت أقرب إلى الإلحاد، واستغرق الأمر أربعة وعشرين عاماً أخرى لأبدأ بحسم الأمر في اتّجاه التّصوّف وتأسيس مذهب صوفيّ جديد أسميته “الصّوفيّة الحديثة” تبلور في الأعوام اللّاحقة، وما يزال التّعمّق فيه قائماً لديّ” ص262، وهنا يطرح “أبو الجدايل” أهمّيّة وضرورة التّفكير، فهو يرفض تقديس كلّ ما هو جاهز/ مطلق/ كامل، ويتعامل مع كلّ شيء على أنّه قابل للبحث والتّفكير والتّطوير، وهذا الأمر يشير إلى تأثّره بمبدأ “الشّكّ” الّذي يدعو إلى التّفكير في كلّ ما يحيط بالإنسان من البدايات، فأينما أوصله التّفكير تكون الحقيقة/ الإيمان.
أعتقد أنّ الخراب الّذي نعيشه الآن، وبعد خراب أربع دول، وقبلها ضياع فلسطين….  يجعلنا نجزم بضرورة وأهمّيّة فتح باب التّفكير وعدم أخذ أيّ أفكار ـ حتّى المقدّسة ـ على أنّها مسلّمات، فالبحث والتّفكير أصبحا ضرورة لنا، إن اتّفقنا على ما وصل إليه “أبو الجدايل” أم لم نتفق..

ويبقى التّفكير طريق الخلاص من التّكلّس والصّدأ اللّذين أصابا عقولنا..

رائد الحواريّ

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *