الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / إضاءةٌ جديدة على قصَّةِ بني قُريظة ويهود المدينة

إضاءةٌ جديدة على قصَّةِ بني قُريظة ويهود المدينة

دراسة للدكتور وليد نجيب عرفات منشورة في مجلَّة الجمعيّة الملكيّة الآسيويّة في بريطانيا وإيرلندا حولَ قصَّةِ ذبح النَّبيّ الكريم لـ 600-900 يهوديّ من بني القُريظة بعدَ حِصارِ المدينة.
ترجمها من الإنكليزيّة للعربيّة عبد المجيد عقيل:

 من المعروفِ أنَّهُ عِندَ ظهورِ الإسلام كانت هُناكَ ثلاثةُ قبائلَ يهوديَّة في يَثرِب (الَّتي سُمِّيَت لاحقاً بالمدينة)، بالإضافة إلى بعض المُجتمعات اليهوديَّة الأُخرى إذا ما اتَّجهنا شمالاً، وكان ليهود خيبَر وفَدَق النّصيبُ الأكبر من الأهمّيَّة. كما أنَّهُ من المُتَّفق عليهِ على نِطاقٍ واسع أنّ النّبيَّ مُحمَّداً كان يأمُلُ بأنَّ يهودَ يثرِب سوفَ يتقبَّلونَ ديناً توحيديَّاً جديداً –أي الإسلام- على اعتبار أنَّهُم أتباعُ ديانةٍ سماويَّةٍ أيضاً. لكنَّ ما حَدَثَ في الواقع أنَّ هذه القبائل اليهوديَّة عندما لاحَظَت أنَّ الإسلام بدأ يُركِّزُ دعائِمَهُ ويكتسِبُ قوَّةً حقيقيَّةً وفعليَّة على الأرض سارَعَت إلى اتِّخاذِ موقِفٍ عدائيٍّ كانَت نتيجتُه الأخيرة اختفاء هذه المُجتمعات اليهوديَّة من المنطقة العربيَّة.
يحكي رواةُ السِّيرةِ الذَّاتيَّة للنَّبيِّ مُحمَّد والمؤرِّخونَ الَّذينَ أتوا من بعدِهِم كيفَ أنَّ بني قُنيقِعة ومن بعدِهِم بني النُضير الَّذين استفزُّوا المُسلِمين تمَّت مُحاصَرَتُهُم ثُمَّ سَمَحَ لهُم المُسلِمونَ بالخروجِ الآمن بعد أن أعلنوا استسلامَهُم، كما سُمِحَ لهُم باصطحابِ جميعِ مُمتَلَكاتِهِم المُمكِنُ نقلُها.
من بعدِ ذلك تمّ كنسُ يهودِ خيبَر وفَدَق.
أمَّا ثالِثُ القبائِلِ اليهوديَّة “بنو قريظة” وبحسب ابن إسحاق في السِّيرة فقد تحالَفوا مع القُرشيِّينَ وحُلفائِهِم الآخرين الَّذين شنُّوا هجوماً غيرَ موفَّق على المدينة في محاولةٍ للقضاءِ على الإسلام. هذا الهجوم كان التَّحدّي الوجوديّ الأكبر للإسلام وقد باء بالفشل وتمَّت محاصَرَةُ بني قُريظة بعد ذلِك مِن قِبَلِ النَّبي وأصحابه. وكما حَصَل في السَّابق مع بني النُّضير فإنَّ بني قُريظة استسلموا أيضاً، لكِنَّ ما يختلِفُ في قِصَّتِهِم عن بني النَّادِر هي أنَّهُم خضعوا بعد ذلك لحُكمِ سَعد بن مُعاذ وهو فردٌ من قبيلةِ بني أوس.
وقد قرَّرَ سعدُ بنُ مُعاذ أن الرِّجال من بني قُريظة يُقتَلون، بينما تُسبى النِّساء والأطفال ويخضعونَ للعبوديَّة، وقد تمَّ ذلِكَ بالفعل فحُفِرَتِ الخنادِقُ في سوقِ المدينة وتم جزُّ أعناقِ رجالِ بني قُريظة مجموعاتٍ مجموعات ودفنُهُم هُناك. وتُقدَّرُ أعدادُ هؤلاءِ الَّذينَ قُتِلوا بين 400 و900 رجُل.
بعد الدِّراسةِ والتَّمحيص، تُصبِحُ بعضُ التَّفاصيل المذكورة في هذه القصّة محطَّ الشَّك، خاصَّةً تِلَكَ الرِّوايةُ الَّتي تقولُ بأنَّ 900 رجُل أو حتَّى 700 أو 600 قد تمَّ إعدامُهُم بدمٍ بارِد، والَّتي يبدو أنَّها رِوايةٌ تمّ اختراعُها لاحِقاً استناداً إلى مَصَادِرَ تاريخيَّة في التُّراثِ اليهوديّ ومن خلالِ إعادةِ إنتاجٍ لقصَصِ وأساطيرَ سابقة في التَّاريخِ اليهوديِّ القديم، وسوفَ نشرحُ ذلك بالإضافةِ للتَّركيزِ على المصادِرِ العربيَّة أيضاً وكيفَ دَخَلَت إليها الرِّوايةُ اليهوديَّة المُختلَقَة عَبرَ المُخبِرين اليهود.
إنَّ أقدمَ مصدَرٍ لدينا يتحدَّثُ عن هذه القصَّة والَّذي يحوي أكبرَ كميَّةٍ من التَّفاصيل هو سيرةُ ابن إسحاق، وما كَتَبَ فيها عن سيرةِ النَّبي الذَّاتيَّة، عِلماً أنَّ مُعظَمَ المؤرِّخين قد أخذوا لاحِقاً عن هذا المصدر في مُقارَبَتِهم لهذه القِصَّة، لكِنَّ ابن إسحاق توفِّيَ في الواقع في السَّنَةِ الـ 151 بعد الهِجرة، أي بعدَ 145 على وقوعِ الحادِثةِ المذكورة، الَّتي هو أقدمُ مَصدَرٍ متوفِّرٍ لدينا يتحدَّثُ عنها، ومن ثُمَّ اقتبسَ المؤرِّخون الَّذين أتوا من بعدِهِ نفسَ الرِّواية وتبنُّوها على اعتبارِ أنَّهُ لا يوجَدُ غيرها مع قليلٍ من الإضافة أو الإنقاص.
وحدَهُ إبنُ حجَّار رَفَضَ هذه الرِّواية التَّاريخيَّة واعتبرها حكايةً لا أساسَ لها من الصَّحة، بينَما يعتبِرُ أحدُ معاصِري ابن إسحاق وهو الفقيه مالِك بن أنس أنَّ ابن إسحاق كذَّابٌ ودجَّال لإدخالِهِ مثل هذه الرِّوايات.
وحَريٌّ بِنا هُنا أن نُذكِّرَ بأنَّ المؤرِّخين الَّذين تولَّوا نقلَ السِّيرةِ الذَّاتيَّة للنَّبي لم يتَّبِعوا نفسَ التَّقاليدِ الصَّارِمة المُتَّبعة في توثيقِ أحاديثِ النَّبيّ من حيث وجود سلسلة مُتَّصِلة من الرُّواة الموثوقين الَّذين ينقُلُ كُلُّ مِنهُم عن آخر، وهذا ما يجعَل مِثلَ هذه الأحداثِ التَّاريخيَّة ضعيفةَ الموثوقيَّة، كما أنَّ رِوايةَ ابنِ إسحاق عن مُحاصّرَةِ المدينة وسقوطِ بني قُريظة هي روايةٌ مأخوذةٌ عن مُسلِمين من سُلالةِ يهودِ بني قُريظة أنفُسِهِم كما يشيرُ ابنُ إسحاق بذاتِ نفسه.

وأمامَ هذهِ الرِّوايات المنقولة عن مصادِرَ مُتأخِّرة وغير موثوقة يأتي القُرآنُ الكريم كمصدَرٍ وحيد مُطلِقِ المصداقيَّة والموثوقيَّة ليُشيرَ إلى الحادِثة في الآيةِ السَّادِسة والعشرين من سورةِ الأحزاب: (وأنزَلَ الَّذينَ ظاهروهُم مِن أهلِ الكِتاب من صياصيهِم وقَذَفَ في قُلوبِهِم الرُّعبَ فريقاً تَقتُلونَ وتأسِرونَ فريقاً)

ولا توجَدُ في الآيةِ الكريمة أيَّةُ إشارَةٍ إلى عَدَدِ المقتولين.
يُبيِّنُ ابنُ إسحاق مصادِرَهُ المُباشرة لهذه الرِّواية وتقتصِرُ هذه المصادِر على فردٍ من عائلةِ الزُّبَير وأشخاصٍ آخرين موثوقين لا يُشَكُّ بكلامِهِم –على حدِّ زعمه-، وقد نقلوا بدورِهم أجزاءَ مُتفرِّقة من هذه القِصّة عن عبدالله بن كعب بن مالِك الزُّهري، عاصِم بن عُمَر بن قَتادة، عبدالله بن أبي بَكر، ومُحمَّد بن كَعب من قبيلةِ القُريظة، وآخرين. وبالتَّالي فإنَّ من الواضِحِ أنّ روايَةَ ابنِ إسحاق هي عبارةٌ عن تجميعٍ لمجموعةٍ من الرِّواياتِ المُتفرِّقة غير المُباشرة، والفاقِدة لأيَّةِ ضوابِطَ تُؤكِّدُ مصداقيَّتَها، ويُشارِك في حياكَتِها أفرادُ من بني قُريظة أنفسهم.
تبدأُ القِصَّةُ بأنَّ بعضاً من قادةِ اليهود –وأسماؤهُم مذكورة- قاموا بإنشاءِ قوَّاتِ تحالُف من القوَّاتِ المُعادية للمُسلِمين. ثلاثةٌ من هؤلاء القادة من بني نادِر واثنانِ من بني وائِل بالإضافة إلى بعض القادة الآخرين من قبائِلَ يهوديَّة أُخرى أسماؤهُم غيرُ معلومة. وتقولُ هذهِ الرِّواية بأنَّ زُعماءَ القبائلِ اليهوديَّة تمكَّنوا من إقناعِ القبائل البدويَّة المُجاوِرة من المُشارَكة في العمليَّة مُتَمَثِّلَةً في: بني غطفان، بني مُرَّة، بني فزارة، بني سُلَيم، وبني أشجَع. وقَدَ اعتقَد زُعماءُ اليهود المُدبِّرينَ للهجوم وعلى رأسِهِم “حُيَي بنُ الأخطب” و”كعب بن الأسعد” أنَّ الحِصار سُرعانَ ما سوفِ يؤدي لخسارةِ النَّبيِّ مُحمَّد لحاضِنَتِهِ وسيفقِدُ أصحابُهُ الثِّقَةَ بِهِ، لكِنَّ هذا لم يحصل وفشِل الحِصارُ آخِرَ الأمر وعانى اليهودُ الأمَرَّين في هذه العمليّة في جميعِ دقائِقِها وتفاصيلِها.
وقد انقسَمَ المؤرِّخونَ والأكاديميُّونَ إلى فريقَين، الأوّل هو الَّذي سلَّمَ بصحَّةِ الرِّواية، حتّى لو شكَّك تشكيكاً بسيطاً وخجولاً ببعضِ التَّفاصيل، أمَّا الفريقُ الثَّاني فرَفَضَ الرِّوايَةَ رفضاً تامّاً واعتبرها غيرَ صحيحةٍ بالمرَّة.
الفريقُ الَّذي قَبِلَ الرِّواية من المؤرِّخين الإسلاميين هو الفريقُ الَّذي لم يجِد مُشكِلاً في قبولِ جميعِ الرِّوايات المُتعلِّقة بسيرةِ النَّبي حتى لو تمَّ تلقيها بعدَ عِدَّةِ أجيال ودون وجودِ سلسلةٍ مُتَّصِلة من الرُّواة أو أيّة شروط ضابِطة لصحّة هذه الرّوايات، وهذا هو المنهج الَّذي اتَّبَعَهُ ابن إسحاق وكُل من نَقَلَ عنهُ.
وهكذا أخَذَ الكثيرُ من المؤرِّخين بروايةِ ابنِ إسحاق دون أيِّ تدقيقٍ في صِحَّتِها، حتَّى الطَّبَرَي الَّذي جاءَ بعد ابنِ عشَّاق بحوالي 150 سنة، وكذلك الأمرُ بالنِّسبَةِ إلى ابنِ القيِّم في “زاد المعاد”.
أمَّا عن ابنِ إسحاق نفسه فقد كان عُرضَةً لهجومٍ شَرِسٍ من قِبَلِ الكثيرِ من المؤرِّخين والأكاديميين مِمَن عاصروه أو أتَوا بعدَهُ، بسبَبِ موضوعَينِ تحديداً: الأوّل هو إدخالُهُ للكثيرِ من الأشعار المُزوَّرة والمُزيَّفة في “سيرةِ ابن إسحاق”، أمَّا الثَّاني فهو ما يتعلًّقُ بروايتِهِ عن حِصارِ بني قُريظة والمقبرة الجماعيّة.
الفقيه مالِك بن أنس الَّذي عاصَرَ ابنَ اسحاق وَصَفَهُ بالكذَّابِ والدَّجال الَّذي يأخُذُ رِواياته عن اليهود. ويمكِنُ القولُ بالمُختَصَر أنّ أنس بن مالك لم يَقبَل لا بالمصادر الَّتي نَقَلَ عنها ابن إسحاق ولا عن المنهج برُمَّتِهِ الَّذي اتَّبَعَهُ في تجميعِ أجزاءِ الرِّواية.
وفي غضونِ هذه المعمعة نقولُ مرَّةً أُخرى أن القُرآن الكريم وهو الأصدقُ من جميعِ الكُتُب قد تحدَّثَ في سورةِ الأحزاب عن قتلِ المُقاتِلينَ فقط، أي الَّذينَ شاركوا في القِتال، وليسَ عن مجزَرَةٍ جماعيَّةٍ ارتُكِبَت بحقِّ جميعِ اليهود. لكنَّ النَّاس يستَمِرُّون في الأخذِ بروايةِ ابنِ إسحاق!
كما أنَّهُ لو كان عددُ القَتلى كما هو مذكور فعلاً في هذه الرِّواية قد تجاوزَ الـ 600 قتيل فلابُدَّ من أن يكون لهذا الأمر وقعٌ أكبر في القُرآن، وأن يتِمَّ التّنويه على الأقلّ أنَّ هُناك عدداً هائلاً من اليهود قد قتِل.
إذاً وكما هو واضِح فإنَّه لا وجود لسبَبٍ يدفعُنا إلى تصديقِ روايةٍ مُتأخِّرة نُقِلت عن مصادِر غير موثوقة أو غير مُهتمَّة بالتَّدقيقِ في صِحَّةِ الرِّواية، أمّا لرفضِ هذه الرِّواية فأسبابٌ كثيرةٌ نذكُرُ مِنها:
– القُرآنُ الكريم هو الكتابُ الوحيد الَّذي يتَّفِقُ جميعُ المؤرِّخينَ الإسلاميين على مصداقيَّتِهِ التَّامة، وأنَّهُ الكِتابُ الوحيدُ الَّذي وَصَلَنا دونَ أيِّ تحريف، والقُرآنُ لم يذكُر أيَّةً مجزرةٍ جماعيَّة ولم ينوِّه مُجرَّدَ تنويهٍ إلى عددٍ كبيرٍ من القتلى، كما لم يتحدَّث عن أيّ قتلى مِمَّن لم يُشارِكوا في القِتال.
– الشريعةُ الإسلامية تقضي بمُعاقبِة المُجرم وحده فقط ولا توجِدُ عقوبةٌ جماعيِّة في الإسلام (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى)
– إنَّ قتلَ عددٍ كبيرٍ من النَّاس بهذا الشكل مُناف للأخلاق الإسلاميّة (أنَّهُ مَن قَتَلَ نفساً بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنَّما قَتَلَ النَّاسَ جميعاً)
– تُناقِضُ الرِّوايةُ شرعَ القُرآن حول التَّعامُل مع الأسرى، فالأسيرُ إمَّا يُطلَقُ سراحه أو يُفتدى ولا شيءَ غيرَ ذلك.
– من غيرِ المنطقيّ أن يتمّ ذبحُ بني قُريظة في الوقتِ الَّذي سُمِحَ فيهِ للقبائل الأُخرى بالمُغادرة وجرى التَّسامُحُ معهُم، قبل وبعد هذه المعركة، فلماذا يكونُ بني قريظة استثناءً؟! كما يتحدَّثُ أبو العُبَيد بنُ سلام في كتابِهِ “كِتاب الأموال” كيفَ أنَّهُ عندما هُزِمَ يهودُ خَيبَر كانت هُناكَ عائلَةٌ مُحدَّدة منهم اشتُهِرَت بإساءتِها الكبيرة للنبيّ، ورُغم ذلك فقد تَرَكَهُم النَّبيُّ بحالِ سبيلِهم وعامَلَهُم كما عامَلَ الآخرين، فلم يتشفَّ أو ينتقم منهُم. هذه الحادثة كانَت بعد استسلامِ بني قُريظة.
– تاريخُ القبائلِ اليهوديَّة بعدَ بدايةِ الدَّعوة الإسلاميَّة ليسَ معروفاً ولا واضِحاً جدَّاً، فالرِّوايةُ القائلة بأنَّ جميعَهُم قد غادروا المنطقة تبدو بحاجةٍ للكثيرِ من المُراجَعَة، فعند تفحُّصِنا لبعضِ المصادِر، كما في “جمهرةِ الأنساب” لابنِ حازِم على سبيلِ المثال، نُلاحِظ إشاراتٍ مُتكرِّرة إلى يهودٍ ما زالوا مُقيمينَ في المدينة المنوَّرة، كما يذكُرُ الوقديّ في مُناسَبَتَين يهوداً كانوا مُقيمينَ في المدينة عندَ قِتالِ يهودِ خيبَر، أي بعد الرِّوايةِ المزعومة عن تصفيةِ جميعِ رجالِ القبائل اليهوديَّة الثَّلاثة!
– لا يوجد أيُّ دليلٍ أو أثر على وجودِ حُفرةٍ في سوقِ المدينة تمّ فيها دفنُ ما يزيدُ عن 600 جُثَّة!

إذاً يُمكِنُ أن نقولَ في خلاصةِ الحديث أنَّ الجذور الَّتي نشأت عنها هذه الرِّواية وشكَّلَت مصادِرَ لها تعودُ إلى أحفادِ بني القُريظة أنفُسُهم والَّذين جاءً ابنُ إسحاق ليأخُذَ عنهُم ويصقُل روايَتَهُ الغريبة العجيبة الَّتي تُناقِضُ شريعةَ القُرءان وروحَ الإسلام ما يعني أنَّ الرِّواية هذه أكثرُ من مُجرَّدِ روايةٍ مشكوكٍ بأمرِها!

والقِصَّةُ حسبَ رأيي الشَّخصيّ لها جذورٌ قديمة تتعلَّقُ بقصَّةٍ مُختلِفة كُلِّيَّاً، أي أنَّ هذه الرّواية قد طفت إلى السَّطح كإعادةِ إنتاجٍ لقصَصٍ قديمة بقيَت بعد ثورةِ اليهود على الرُّومان، الَّتي انتهت بدمارِ المعبد في السَّنة الـ 73 بعد الميلاد. خاصّةً أنّ هُناكَ الكثير من المصادِر الَّتي تؤكِّدُ بأنَّ يهود المدينة المُنوَّرة هُم بالأصل ناجونَ فارُّون وهارِبون من حروبِ اليهود القديمة وبالتَّالي فإنَّ قِصَصَ بعضِ المجازِرِ هي قِصَصٌ قديمة تحوَّلت إلى جُزءٍ من التُّراثِ اليهوديّ تمّ إعادةُ إنتاجِها بشكلٍ مُتكرِّرٍ كما الأساطير ومِنها قصَّةُ بني قُريظة.
تشابُهُ كبيرٌ يثيرُ الكثيرَ من الشَّكّ نجِدُهُ في روايةِ جوزيف الَّتي تقولُ بأنَّ أليكساندر الَّذي حَكَمَ أورشليم قبلَ هيرودوس العظيم، قد اعتَقَل 800 يهوديَّاً وذَبَحَ نساءَهُم وأطفالَهُم أمام أعيُنِهِم. وتتشابَهُ الكثيرُ من التَّفاصيل الأُخرى بين الرِّوايَتين.
ويبدو أن قصَّةَ حصارِ بني القُريظة وقِصَّة حصارِ المسادة القديمة في التَّاريخِ اليهودي قد اختلطتا عندَ يهودِ المدينة وأحفادِ بني قُريظة الَّذين أخَذّ عنهُم إبنُ إسحاق روايته فكانَت روايتُهُ روايةً هجينةً بين الرِّوايةِ الحقيقيَّة وبين الرِّوايةِ اليهوديِّة القديمة الَّتي تسبُقُ الإسلامَ ببضعِ مئاتٍ من السَّنوات.

 

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *