حول سؤال عن المخاوف من انهيار الدّولار تبعاً لوقائع انخفاض سعر صرفه المتوالي في الفترة الأخيرة:
كنتُ قد كتبتُ في موضوعٍ سابقٍ حول الظّروف الّتي مكّنت الولايات المتّحدة من فرض عملتها الوطنيّة، لتقوم بدور النّقد العالميّ سنة ١٩٤٥، مستندةً إلى عاملين أساسيّين: الأوّل؛ خروج الولايات المتّحدة من الحرب العالميّة الثّانية كرابحٍ وحيد من الحرب (ازدهاراً اقتصاديّاً، إنتاجاً وتصديراً للسلع الغذائيّة والمعدّات والأسلحة..)، الأمر الّذي جعلها أكبر مالك للذهب في العالم (٩٠٪ سنة ١٩٤٥) عندما انهارت كلُّ عملات الأنظمة النّقديّة الورقيّة، فكان الذّهب حتّى ذلك الوقت يقوم بدور النّقد العالميّ بسبب مايمتلكه، كسلعة، من قيمةٍ بذاته.
والثّاني؛ هو الالتزام أمام جميع الدّول الأخرى في مؤتمر بريتون وودز سنة١٩٤٥ بضمان حرّيّة إبدال الدّولار بالذهب، بسعر رسميّ ثابت وهو ٣٥ دولاراً للأونسة، وبذلك فقد أمكنها إفشال المقترح الّذي تقدّم به مندوبُ بريطانيا العظمى – المدمّرة والمفلسة آنذاك – الاقتصاديُّ البارز جون مينرد كينز، والقاضي بإنشاء مصرف مركزيّ عالميّ يصدّر نقداً عالميّاً مضموناً ومعترفاً به من قبل مختلف الدّول، ويدار بشكلٍ مستقلٍّ عن هيمنة أيّة حكومة، كما تدار المصارف المركزيّة في الدّول الدّيمقراطيّة!
ورغم أنّ هذا المشروع هو الأكثر منطقيّةً وعدالةً لأنّه لايُمَكِّنُ دولةً ما من استغلال وضعها المتميّز الّذي نتج عن حرب عالميّة دمّرت اقتصادات جميع الدّول الأخرى، باستثنائها هي، لتستحوذ، وعلى مدى ثلاثة أرباع قرن تقريباً، على ثروات وثمرات عمل جميع شعوب العالم مقابل (طبعاً بالإضافة إلى صادراتها الضّخمة من المنتجات الزّراعيّة والصّناعيّة والعلميّة، التّكنولوجيّة والخدميّة، والأسلحة والخدمات العسكريّة..الخ) الورق الأخضر الّذي لايملك قيمةً بذاته، ولتصبح القطبَ الأوحدَ المهيمنَ على العالم اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً وعلميّاً، وتكنولوجيّاً، ورفاهاً وثروةً….. بينما أكثر من نصف العالم يغطّ في الفقر والجوع والتّخلّف، ولم تنج إلّا حفنة من الّدول الرّأسماليّة المتقدّمة الّتي كانت بنت لنفسها مكانةً عالميّةً قبل الحرب، وقد لحقتها لاحقاً مجموعةٌ من الدّول المتخلّفة، الّتي أسميت (النّمور) لتصبح شريكةً لها في النّموّ والإثراء والتّقدّم .
إنّ الحالة الشّاذّة هذه ستبقى تواجه ضغوطاً من مختلف الأطراف المتضرّرة منها، والّتي تدفع من إمكاناتها وجهد مواطنيها وحقوقهم في ثروات بلدانهم وثمرات عملهم المستنزفة، حتّى يحين الوقت للعودة إلى الوضع المنطقيّ.
وهذا ماطرح على العالم مشكلة إصلاح نظام النّقد العالميّ منذ مطلع السّبعينيّات في القرن الماضي، عندما بدأت مشكلة سعر صرف الدّولار بالانفجار، والّتي واجهها الرّئيس الأميركيّ نيكسون بتحلّل الولايات المتّحدة من تحمّل عبء الالتزام بتبديل الدّولار لحامليه بقيمته الذّهبيّة الثّابتة المحدّدة في اتّفاقية بريتون وودز، ممّا فتح الباب على استمرار هذا الانخفاض مع استمرار تفاقم الأسباب المؤدّية له .
ومن يومها والعالم يبحث عن حلّ لهذا التّناقض، إمّا بالعودة إلى الذّهب أو بإنشاء نظامٍ نقديٍّ عالميٍّ جديدٍ يحول دون تمكّن دولةٍ واحدةٍ من نهب العالم كلّه بعملتها النّقديّة الورقيّة الّتي تتعرّض قوّتها الشّرائيّة إلى التّآكل باستمرار.
لقد أمكن للولايات المتّحدة أن تحافظ على قدرتها باستخدام الدّولار الورقيّ لتمويل سياسات الهيمنة والإثراء الّتي تتّبعها، وذلك رغم الاستغناء المتزايد للعالم عن منتجاتها والتّحوّل عنها جزئيّاً إلى بدائل كثيرة أخرى، بل وحتّى تحوّلها هي – الولايات المتّحدة – إلى هذه البدائل الاخرى، وتحوّلها، بالتالي، إلى أكبر مدين عالميّ، حيث قارب دينها العام عشرين ألف مليار دولار! ممّا يجعل جميع الدّائنين لها، من أصحاب الفوائض أو حملة الدّولارات، يخشون على أموالهم الهائلة من التّبخّر، لعدم وجود أيّة ضمانات لها، سوى استمرار الدّولار بأداء وظيفة وسيلة تداول عالميّة، مادام لم يظهر بعد بديل جدير بأخذ هذا الدّور.
(يتكرّر هذا المثال في ساحات أخرى وميادين أخرى هذه الايام، مثلاً في عالمنا العربيّ، حيث تستنقع الأنظمة العربيّة في قاع العالم، بسبب عدم وجود بديل لها، كما يدّعون، لأنّ من جاء بالقائمين عليها كسر القالب الّذي صنعهم فيه ممّا أغرق الأمّة العربيّة بالعقم!).
كان القذّافي وإيران وغيرهم قد تحدّثوا عن الاستغناء عن الدّولار في بيع النّفط، ولكن حديثهم لايعتمد على قوّة تكسبه أيّة جدّيّة، وكان الرّئيس الرّوسيّ بوتين قد تحدّث عن إنشاء مصرف مركزيّ لدول البريكس يستغني عن الدّولار في تعاملاتها فيما بينها على أساس وحدة نقديّة متّفق عليها، (وكان شيء من هذا القبيل قائماً بين الدّول الأعضاء في الكوميكون قبل انهياره عام ١٩٩٠)، لكن ذلك لم يترجم عمليّاً حتّى الآن.
وأخيراً، الصّين، وهي أكبر دائن للولايات المتّحدة، باعتبارها الدّولة ذات الفوائض الدّولاريّة الأكبر، بدات باستخدام عملتها في المبادلات الدّوليّة، وهذا ما يخلق طلباً خارجيّاً على اليوان الصّينيّ لأجل الاستيراد من الصّين، باعتبارها أكبر مُصَدِّرٍ عالميّ، وهنا يظهر لأوّل مرّة عاملُ ضغطٍ جدّيٌّ على الدّولار.
ولكن الى أيّ مدى، ومتى سيظهر هذا التّاثير؟
فعلى المدى القصير سيكون انخفاض الدّولار البسيط تجاه مختلف العملات عاملاً إيجابيّاً للاقتصاد الأميريكيّ، اذ إنّه سيقلّل الواردات، وسيزيد الصّادرات الأميركيّة، وبالتالي، يقلّل العجز الأميركيّ، وذلك مشابه، من وجهة نظر اقتصادويّة، لأثر وضع رسوم جمركيّة على الواردات. ولكن هل سينعكس انخفاض العجز في الميزان التّجاريّ أو حتّى ميزان المدفوعات الأميريكيّ بدعم الدّولار؟
المشكله أن هناك عوامل كثيرةً أخرى تشارك في هذه العمليّة، وهذه ربّما أهمّ الأسباب التّي تجعل دولاً كثيرةً ذات اقتصادات قويّة وصادرات وحتّى فوائض خارجيّة ضخمة، كاليابان مثلاً، لاتهتمّ بتمكين عملتها من أن تصبح عملة عالميّةً كالدولار الأميركيّ، لذلك فإنّه ليس هناك خطر داهم على الدّولار، طالما أنّه ليس من مصلحة الدّول القويّة وذات الفوائض الخارجيّة الضّخمة أن ينهار سعر صرف الدّولار، وإنّما الأكثر توقّعاً ومنطقيّةً هو استمرار تراجع دوره كنقد عالميّ، بل وانخفاض سعر صرفه، كاتّجاه عامّ وتدريجيّ، وهذان الاتّجاهان يتحقّقان بصورة تدريجيّة، وسيتحمّل أصحاب الفوائض تدريجيّاً الخسائرَ الّتي تلحق باحتياطياتهم المحفوظة على شكل سندات لدى الخزينة الاميركية أو ودائع مصرفيّة…… ، المسألة الّتي تبقى شغلهم الشّاغل، والّتي تدفعهم للموازنة بين الأرباح والخسائر من وراء التّخفيف تدريجيّاً من عبء استخدام الدّولار كمخزن للقيمة، وإحلال عملتهم كبديل عنه، كما تحاول الصّين هذه الأيّام.
ملخّص القول: لا أعتقد بصحّة الحديث عن (انهيار) الدّولار، مع تزايد الاهتمام والبحث عن بدائل أو شركاء له – في الوقت نفسه – ، بل وعن نقد عالميّ حقيقيّ، يصدره ويدير عمليّاته مصرفٌ مركزيٌّ عالميّ!
لكن الوصول إلى ذلك، كما لإصلاح الأمم المتّحدة، الموضوع المتداول أيضاً منذ أربعة عقود، يحتاج مناخاً سياسيّاً دوليّاً إيجابيّاً، بينما يشهد العالم اليوم عودة إلى الحرب الباردة من جديد !
- عارف دليلة