(ونَخْلُصُ من هذا كلِّه بحقيقةٍ مؤدّاها أنّ الجزيةَ ليست في واقعِ الأمرِ سوى ضريبة دفاعٍ على حدّ تعبيرنا المعاصر، فهي مقابلٌ مادّيٌّ لما يتمتّع به أهلُ الذّمّةِ من حمايةٍ في ديار الإسلام، وهي ليست ضريبةَ رأسٍ كتلك الّتي عرفها العالمُ القديمُ، والّتي كانت الجيوشُ الفاتحةُ تفرضها على الشّعوب المغلوبة، فثمّة اختلافات هامّة وجوهريّة بين الجزية وضريبة الرّأس.
صحيح أنّ كلّاً منهما قد فُرِضَت على الفرد، ولكنّ شروطَ فرضِ الجزيةِ ومقاديرها المختلفةِ تميّزت بطابعٍ إنسانيٍّ، إذ راعت عدمَ أخذها من النّساء والأطفال والشّيوخ، فضلاً عن غير القادرين، كما أنّ الرّهبان قد أُعفوا منها بشرط انقطاعهم في أديرتهم، بالإضافة إلى إمكان تأجيلِ تحصيلِها من المُعسر.
زِدْ على ذلك أنّ الجزيةَ جزءٌ من اتّفاق عقد الذّمّة، الّذي هو التزامٌ مُتبادَلٌ بين طرفيْن: ففي مقابل التزام أهل الذّمّة بالشروط السّابق ذكرها يكون على المسلمين حمايتهم وحماية أموالهم وتعويضهم عمّا يتلف منها، كما تكفل لهم حرّيّةَ كسبِ العيشِ وتنظيمِ اجتماعاتهم داخليّاً، بجانب حرّيّة العقيدة والدّفاع عنهم طالما بقوا داخل المجتمع الإسلاميّ، وقد نهى الإسلامُ عن تكليفِ أهلِ الذّمّةِ ما لا قدرة لهم عليه، أو ضربهم، أو تعذيبهم، أو حبسهم على أداء الجزية).
- من كتاب (أهل الذّمّة في مصر.. من الفتح الإسلاميّ حتّى نهاية دولة المماليك) لمؤلّفه د. قاسم عبده قاسم