يرتبط شمّ النّسيم منذ عقود طويلة بأغنية (الرّبيع) لفريد الأطرش، الّتي تظلّ – عندي – من أبدع وأجمل الأعمال، خاصّة الأداء الصّوتيّ واللّفظيّ الفريد والرّفيع لفريد الأطرش، على وقع اللّحن الموسيقيِّ البديعِ، الّذي يصوّر تعاقبَ فصول العام، ودوام معاناته، ومرارةِ فقدانِه لحبيبه.
الأغنية كانت في فيلم (عفريتة هانم) في العام 1949، وهي من كلمات مأمون الشّناويّ وألحان فريد الأطرش.
تبدأ الأغنية بالحديث عن عودة الرّبيع وغياب الحبيب، ثمّ يتحوّل السّياق للحديث عن الصّيف (لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامك)، ثمّ ينتقل إلى مقطع الخريف الّذي استوقفني كثيراً في هذه الأغنية كلماتٍ وأداءً ولحناً… فعندما أستمع إليه بنبراتِ صوتِ فريد الأطرش ولحنِه البديعِ مع خلفيّة صوتِ الكورالِ الحزينِ أشعر بالفعل أنّ الدّنيا قد انتهت بالنسبة له، وأنّها أصبحت من بعد حبيبه مزيجاً كئيباً مريراً من ذبول الورود، لتصير الدّنيا (هوان ويأس وآلام) كما تقول كلمات الأغنية!
ثمّ يتحوّل السّياق إلى الشّتاء ومدى قسوته مع فقدان الحبيب: (وأدي الشّتا يا طول لياليه على اللّي فاته حبيبه يناجي طيفه ويناديه ويشكي للكون تعذيبه)، ثمّ يكون الختام بمناشدة مختلَف المخلوقات من أجل البحث عن الحبيب المفقود (يا ليل يا بدر يا نسمة يا طير يا أغصان/ هاتوا لي من الحبيب كلمة تواسي العاشق الحيران).
وفي النّهاية يتجدّد الأمل بتمنّي عودة الحبيب؛ ولو بإرساله لـ (طيفه) مع قدوم الرّبيع: (وأقول يمكن هيرحمني ويبعت فى الرّبيع طيفه).
بالرغم من مرور عقود طويلة عليها (نحو 70 عاماً) إلّا أّن الأغنية لم تفقد بريقَها وألقَها وجمالَها القديم.. ولا عجب فهذه الأعمالُ الرّفيعةُ خرجت بقدر كبير من الجودة والإتقان، بعكس التلّوث السّمعيّ المُسمّى زوراً بـ (الفنّ) في عصر القبح والانحطاط وانطماس الذّائقة عند الكثيرين.
بالطبع خرجت تلك الأعمال الفنّيّة الرّاقية الرّفيعة المستوى في زمن الاحترام والرّقيّ، إبّان الحقبة شبه اللّيبرالية، قبل انقلاب (شلّة العساكر) المنحوس في 23 يوليو 1952، الّذي أتى على الأخضر واليابس في مصر، و قبل مجيء زمن القبح والتّنطّع والعشوائية والانحطاط، الّذي انعكس على انحدار الذّوق، وتردّي الذّائقة الموسيقيّة للكثيرين، بسبب إلف القبح الّذي هو مَتلَفَة للعقل والإحساس جميعاً كما قال الرّاحل الكبير محمود محمّد شاكر.
- أحمد طه/ مصر