دَعيني أُغَنّي..

خالد الدّاحي راثياً ولده محسّد:

وَقَسَّـمَ اللهُ ..بَينَ الناسِ حُزنَهُمُ   

 ثُمَّ انثَنى وَرَماهُ ..كُلَّهُ..نَحوي!

………….

أَدري بِأَنَّــــكَ كُنتَ أَكـــرَمَ فِتْـيَتي  

لكنْ..بِطَيفِكَ..كَيفَ صِرتَ بَخيلا؟

…………

وددتُ بأنْ يكونَ اللّحدُ شــفعاً   

فلا يُدرى عظامكِ أم عظامي!

………..

لَقَد كَذِبَ المُعَزِّي..  لَستَ مَيْتاً      

وَلكِنِّي أَنا المَيْــــتُ المُــعَزَّى!

………….

أقِــمْ مأتَماً للشـــــــعرِ مِنْ بعد موتــهِ 

فقد ترتقي بعض التّعازي الى الشّعرِ

………….

 ولو أنَّ أُمّي أدركتْ ما أصابني     

لما حمَلَتْ بي رحمـــــةً بوليدها 

………….

أَلحُــــزْنُ أَبقى شَــــــبابيكي مُظَلّلةً   

مِنْ أَينَ يَعبُرُ لي في ضَوئِهِ الفَرَحُ؟

………….

كُلُّ الخطــــايا تَجيىء مُفــــــرَدَةً    

إلّا خطايـــــاكَ فَهْـيَ تَحتَشِــــــدُ!

وَكُنتُ أدري بأِنَّ لي جَسَــــــــدَاً   

 فَكَيفَ أصحو وَلَيسَ لي جَسَدُ؟

بَكَيتُ في الليلِ مِنْ نحــولِ يدي     

وَفي الضّحى لَمْ تَكُنْ هناكَ يَدُ!

كُلُّ الشــــبابيكِ تَشــتَهي هَرَبي  

 وَلَيسَ لي ســـــاعِدٌ وَلا عَضُدُ

……………
وَأصبَحتُ مِثلَ النايِ يبكي لِوَحدِهِ
   

فَقَد غادروهُ بَعدَ أنْ أكثَرَ البُكــــا!

…………..

دَعيني أُغَنّي تَعرِفــــي أيَّ عازِفٍ 

عَلى حَدَقاتِ الناي تَبكي أصابِعُهْ!

……………..

تَبَّـــــاً لعينَيَّ ما جــرى لهما 

لَم تعمَيا .. بعدَهُ.. كما يَجبُ؟

…………….

أدري بأنّي وأنتَ.. في سَـــــفَرٍ

ونحنُ..عند الوصول.. نفترقُ!

…………….

ياأيُّها المبتلى قســـــــراً بغربتهِ  

هذا زمانُ الضحايا والجنـــازاتِ
هذا زمانٌ أشاحَ الوجهُ عن فمهِ  

فيهِ.. ليلثمَ أطـــرافَ العبــاءاتِ

…………….

وَمَنْ يَبكيكَ بَعدي حينَ أمضي
وَلَمْ أتركْ بميراثي دُمـــــوعا؟

……………………

غَــــــداً أِذا الزائرُ الأخيرُ بكى
وبَلّلتْ مُقلتــــــــــاهُ أرديــتي!

وأغمضَ الناسُ أعيني جَزَعاً
وأطبَقوا فوقَ أختها شَــــفَتي

خُرافةٌ أن يعـــــــودَ ما ذَهَبَتْ 
بهِ الليالي وضاعَ من سِـمَتي

حزني عليها اِذا حُمِلتُ غــداً
وســـارَ بي مُسرعاً أخو ثِقَةِ

حُزني على حاسِـــــرٍ مُرَوَّعَةٍ
تصيحُ..دونَ النساءِ.وا أبتي!

وأنتَ يا واصفاً خطـوطَ يدي
دعها؛ فخطّ الرّدى بلا صفـةِ

أهكــــــذا يارواءُ دونَ صدىً
أمضي ولم تكتمـــلْ معلَّقتي؟

…………..

يا هودجَ الحزن مااهتدى نغمٌ   إليك يوماً ولا هفا طربُ
كأنّما الحزن والأســــــى فرح  لديكَ لو فارقاك تنتحب!
غداً ســــــتـلتاع حيث لا أحــدٌ  يضيىْ قنديلَــه ويقتربُ!
أفقْ فهذا النعاسُ غيبتُكَ الكبـــــرى وهيهات َبعدَها تثِبُ 

……………

لي ذِكْرَيــــــاتٌ أِذا أغفَيتُ توقِظُني       

والذكرياتُ ســــــــياطٌ تجلِدُ الغافي 

كُنّا ثلاثةَ أمواتٍ نســــــــــــيرُ معاً          

 وَخَلْفَنا يَتَمَطّى ظِلُّ سَــــــــــيّافِ!

فَسَمَّرونا على الحيطانِ والتَصَقَتْ   

مِنَ التَرَقُّبِ قُمصــــــاني بأكتافي!

قَبرٌ بباديةِ الأنبــــــــــــــارِ لا أثَرٌ          

يُومي إليــــــهِ ولو جاؤا بعَـرّافِ

……………
غابَـــتْ ولَمْ يَحْتَفِــــلْ بها أحَـــــدٌ
     

حتى اســـــــــتعارَ الهلالُ مَطلَعَها

لو قلتُ ها للرجـــ،ـوعِ ما رَجعَتْ 

وَكُنتُ في ما أقـــولُ مَرجِعَــــــها 

شَـــــقَّتْ ثيــــابَ الوصالِ لاهـيـة  

وَتَبتَغي اليــــــــومَ أنْ أُرَقِّعَـــــها

هاضَتْ على حُبِّهــــا قوائمَــــــهُ   

وكانَ بَينَ الجيادِ أســــــــــرَعَها

غاوٍ! دعــــاهُ الهــــوى لِيَتبَعَهـا    

فَضَيَّعَتْ عُمْـــــــرَهُ وَضَيَّعَهــــا!

تُبدي رضـــــاها فأِنْ رَضيتُ به   

تُعيــــــــــدُ بَعــدَ الرضـا تَمَنُّعَها 

كــــلُّ القـوافي وأِنْ مَررنَ على  

شُــــــــــبّاكها لن تُثيرَ مَخدَعَها 

قصيـــدةٌ (قالهـــا على عَجَـــلٍ)  

أضــــــــاعَ عندَ اللقــاءِ مَطلَعَها

لَو تُشعِلُ العَشْـــــرَ لن يعودَ لها  

مَنْ أطفـــــأتْ في رؤاهُ ألمعَـها

وكادَ يبكـــــي علــى قصـــائدِها  

شعري وما شــئتُ حينَ شَيَّعَها

لَمْ تَدرِ ما بي ولو دَرَتْ خَصَفَتْ 

على بقايا الأضـــــلاعِ أضلُعَها!

مَســـــكونَةٌ بالعِنــادِ ليسَ تَرى   

بأَنَّ في دّفَّتيــــهِ مَصرَعَهـــــــا 

لولا رضــاهـــــا بأنْ تُوَدّعَــني 

ما كنتُ أرضــــــى بأن أُوَدّعَها

وَحينما غادرَتْ مواجعَهــــــــــا   

تاقَتْ لِمَن كانَ أمس أوجَعَـــــها

وَغَيــــــــــرةً أغلَقَتْ نَوافـــــذَها    

كي لا يرى الآخــــــرونَ أدمُعَها

تقـــــــولُ ضَيَّعتني وما عَــرَفَتْ

بأنَّ هـــــــــذا الغرورَ ضَيَّعَهـــــا
………………………………………

وَقَسَّمَ اللهُ في الدّنيا مَشــاعرَنا   

فينا وكانَ نصيبي بينها الألَــمُ 

………………………………………

تُخفي يَدَيها وَقَد شُــــــغِفتُ بها      

خَوفاً بِأَنْ يَعتَريهما الشَــــــغَفُ
تَدُسُّــــــــها في جُيوبِ مِعطَفها      

كي لا تَرى العَينُ كيفَ تَرتَجِفُ

………….

تاهت بما لم تكــن لتزرعَـــهُ     

لولايَ! واستعرضت دواليها
غداً ســـتأتي الحقولَ عاريـةً     

وتنهب الرّيـــــحُ كلَّ ما فيها

…………

يا عابـرَ الخابور دربُكَ موحــشٌ  

وخطــاكَ مُتعَبَــةٌ تروغُ وتضلَـــع
تنداحُ في الحـارات وحــدك تائهاً  

وتجوب أرصفـةَ الدّروب وتذرعُ
طوَّفــتَ في طرق المنافي كلّهــا   

كي لاتضيع وأنت فيها الأضيــع
مدنٌ بها الأجسادُ تعرض نفسَها   

والموتُ في عرَصاتهــا يتبضَّعُ!
مدنُ تبيــــع الأرجوانَ دروبُــها   

وتعدُّ أحزمَـةَ الرّصاص وتصنعُ
مدنٌ أكـفُّ المتعَبينَ بســــوحها   

تستعرضُ الأمواتَ ثمَّ تُــــودِّعُ!
مِن كلِّ مُنعطفٍ تمرُّ رصاصـــةٌ  

ويُطلُّ وجهٌ ســــــــــــافرٌ ومُقنَّعُ
وجهٌ أعارتهُ الكراهـــــةُ عُريَها  

فاســـــــتعبدتهُ! وآخــرٌ يتضـرَّعُ
وجهانِ ما التقيا ولا اجتمعا معاً 

يومـــــــــاً ولكنَّ المنــايا تجــمعُ

…………..

إذا مات لا تَبكوا عَلَيهِ أَمامَها  

وَلا تَندبوه رَأَفَـــــةً بِدُموعِها 

……………

قُلْ للقوافي ما لهــــــنَّ على الأسى    

يرقصــــن َفي ولـــــهٍ وهُـنّ ثكـالى؟
أنســــــــينَ عِدَتهـــــنّ بعد رحيلنــا    

حتّى حســـــــبْنَ ظلالَهنّ رجـــــالا؟
أقبلْــــــنَ أبكاراً يمسْـــــــــنَ غوايةً   

نحــــــــو المنابرِ حيثُ عُـدنَ حَبالى
نحن الطمثناهنّ في وضـحِ الضُحى   

قســـــــراً، وصيّرنا الحــرامَ حـلالا

………………….

بَكى الليلُ لَمّأ باتَ دونَ سَوادِهِ   

فَقَد خَذَلَتهُ خصلَةٌ بِسَــــوادِها!

………………….

وَخُصْلَـــــــةٌ أَيْقَظَتْ قصائِدَنا   

فكَيفَ لَو كُلُّ شَــعْرِها خُصَلُ؟

…………………

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *