الرئيسية / للحوار / ما هو رأيك بخسائر سوريّة والتّكلفة الزّمنيّة والماليّة لتغطيتها؟

ما هو رأيك بخسائر سوريّة والتّكلفة الزّمنيّة والماليّة لتغطيتها؟

 

بقلم: عارف دليلة

في إجابة سريعة على سؤال: ما هو رأيك بخسائر سوريّة والتّكلفة الزّمنيّة والماليّة لتغطيتها؟ كتبتُ:
أثناء حصار تيمورلنك لدمشق، وكانت آنذاك مطوّقةً بسورٍ حصينٍ لايسهل اختراقه، بدأ تيمور يتسقّط أخبار المجتمع الدّمشقيّ وتحوّلاته تحت الحصار، وعرف أسماء من ظهرت لديهم الميول الاستسلاميّة (مثل ابن مفلح)، الّذين أخذوا بإقناع أهل دمشق بتلبية طلب تيمورلنك وإعطائه مليون دينار – يفتدون بها دمشق من الدّمار! – ليفكّ عنها الحصار وينسحب بجيشه، ولكنّ تيمورلنك ما إن استلم المليون وتأكّد من وجود استعداد للتنازل حتّى رفع طلبه الى سبعة ملايين دينار، فعاد ابن مفلح وعصابة الاستسلاميّين إلى أهل دمشق يطلبون تلبية طلب تيمور الجديد برفع الفدية إلى سبعة ملايين، ومن أجل ذلك شكّلوا وحدات قمع وتشليح ونهب لإنجاز هذه المهمّة وإخماد المتذمّرين، مستخدمين كلّ مايمكنهم من وسائل القهر لإجبار السّكّان على تقديم كلّ مالديهم، إلى أن جمعوا و قدّموا له ماطلب، وإذْ به يضيف طلباً جديداً آخر وهو أنّه لايمكن أن يرجع عن دمشق قبل أن يدخلها جيشه ثمّ يخرج منها، فهو “ملك عظيم ” ولايليق به أن يصل إلى مدينة وينسحب عنها دون أن يدخلها، وأعطى عهداً بأن لايتسبّب عساكرُه بأيّ أذى، فوافق الاستسلاميّون، على أن يعيّن السّلطان والياً على دمشق، كما يعيّن أميراً على قلعتها، مستقلّاً عنه ومرتبطاً به، ولم يكن لدى الأمير من السّلاح (الثّقيل) سوى منجنيق واحد، ومن العساكر سوى أربعين متطوّع ممّن لم يهن عليهم استسلام دمشق وفتحها أمام جحافل تيمورلنك، وقد رفض المقاومون  (أمير قلعة دمشق ورجاله) الاستسلامَ، وقرّروا المقاومة حتّى الاستشهاد!
فتح والي دمشق وعصبة الاستسلاميّين باب سور المدينة، ووقف قائد الجيش عند البوّابة يوصي عساكره بعدم ممارسة أعمال الغصب والنّهب، إلى أن أصبحوا جميعاً داخل المدينة، وعندها أطلق تيمور العنان لهم لممارسة أعمالهم الهمجيّة المعتادة. أمّا أمير القلعة ورجاله فقد استمرّوا يقاومون بقذف الحمم من منجنيقٍ لهم على عساكر تيمور حيثما توغّلوا، حتّى نفذت ذخائر الأمير وقتل مع جنوده عن بكرة أبيهم، ( الوقفة الّتي تكرّرت في انتفاضة أطفال الحجارة الشّهيرة في فلسطين ضدّ المحتلّ الصّهيونيّ، والّتي كان قد كرّرها قبلهم يوسف العظمة، أوّل وزير دفاع سوريّ، قبل قرن من الآن، ليوقف تقدّم جحافل الجنرال الفرنسيّ غورو الّتي زحفت من بيروت لاحتلال دمشق، عاصمة الدّولة السّوريّة الوليدة، بعد رفضه إنذار غورو بتسريح الجيش الوطنيّ الذي كان قد بدأ بانشائه، وأبى الاستسلام للجيش الفرنسيّ الغازي، وقابلهم مع مئات المتطوّعين وبما لايذكر من السّلاح مقابل المدافع والدّبابات والطّائرات الّتي كانوا يزحفون بها، لتبدأ المعركة غير المتكافئة، ولتنتهي في غضون ساعة في منطقة ميسلون على بعد خمسة وعشرين كيلو متراً من دمشق، ليعبر الفرنسيّون إلى دمشق، ولكن لتبقى جذوة النّضال متّقدة حتّى طرد المستعمرين والفوز بالاستقلال عام ١٩٤٦).
وبعد أن ارتكب عساكر تيمور كلّ الفظائع، (توّجوا) جرائمهم بإحراق دمشق قبل مغادرتها، وقد روى ابن خلدون الّذي كان يرافق الجيش المصريّ الّذي أرسله السّلطان من القاهرة ليطوّق دمشق ويحميها من تيمورلنك كيف أنّ المصريّين كانت لهم الغلبة في المناوشات الاولى التي حصلت بينهم وبين التيموريين الذين كانوا قد مروا بحلب وحماه وغيرهما بعد حرقها وقطع رؤوس رجالها وبناء اهرامات منهم ، لكن الجيش المصريّ مالبث أن انسحب وعاد الى مصر لحماية السّلطان، تاركاً دمشق عزلاء أمام جيش تيمور بعد سريان إشاعة عن مؤامرة يعدّها الأمراء لخلع السّلطان، فكان حرصه على الكرسيّ أهمّ من دمشق كلّها!
أمّا ابنُ خلدون، العالمُ العظيمُ!، والشّخصُ الانتهازيُّ في آنٍ معاً، الّذي جاء برفقة الجيش المصريّ، فقد استجاب لطلب تيمور للقدوم إليه.. لقد كان يتسلّق سورَ دمشق ليلاً وينزل خارجه بمساعدة بعض أعوانه ويتسلّل للقاء تيمور. وكان من عادة تيمور عند احتلال أيّة مدينة التّعرف على الوجوه البارزة فيها من فلاسفة وفلكيّين وشيوخ دين وعلماء وفنّانين، إضافة إلى الحيوانات الأصيلة فيها، فكان يأخذ كلّ من يتعرّف عليهم، ويعود بهم إلى عاصمته في آسيا الوسطى سمرقند ليشيد فيها أفضل ما عرف من بنيان. وبخصوص بغلةِ ابن خلدون بنّيّةِ اللّون فكانت أحدَ الأنواع الأصيلة الّتي كان يخصّصها السّلطان لأصحاب المناصب الرّفيعة (مثل المرسيدس السّوداء الّتي كانت تلقّب في سوريّا بالشبح) كقاضي القضاة، وكان في مصر أربعة منهم – واحد لكلّ من المذاهب الأربعة، وكان ابن خلدون قاضي قضاة المذهب المالكيّ . طلب تيمور من ابن خلدون أن يهبه البغلة مقابل ثمن. يقول ابن خلدون أنّه قدّمها بلا مقابل هديّة للملك العظيم، وخوفاً من أن يعلم السّلطان أنّه قبض مالاً من تيمور فيشكّ بعمالته له…
والخلاصة الّتي تهمّنا هنا في معرض الإجابة على السّؤال حول كلفة الكارثة السّوريّة الرّاهنة، الأكبر والأبشع في العالم منذ الحرب العالميّة الأولى، اذا ما استثنينا القنبلتين النّوويّتين اللّتين ألقتهما الولايات المتّحدة على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيّتين بعد أن كانت قد تحقّقت هزيمة اليابان وانتهت الحرب فعليّاً، باعتبارهما بطراً همجيًاً لامعنى عسكريّا له، سوى إرهاب العالم، وبالأخصّ الاتّحاد السّوفييتيّ وزعيمه ستالين المنتصر الأكبر على النّازيّة.
يقول ابن خلدون: إنّ حرائق دمشق التي خلّفها جيش تيمور عند انسحابه تركت دمشق عشر سنوات قفراً غير قابلة للعيش الآدميّ!
إنّ التّدمير الّذي وقع بسوريّا، بشكل واع وهادف، في محرقة السّنوات السّبع المنصرمة، والّتي لاتبدو لها نهاية حتّى اليوم ، أصبح أكبر بآلاف المرّات ممّا حلّ بحلب و بدمشق حينها، إضافة إلى أنّ إعادة الإعمار كانت في تلك الايّام ممكنة بالأيادي البشريّة، رغم ما كان قد لحق بها من خسائر هائلة، أمّا إعادة إعمار ما تهدّم هذه الأيّام فتحتاج إلى العقول والأيادي البشريّة الخبيرة الّتي أصابها من الاستنزاف والتّدمير أكثر بكثير ممّا أصاب سابقتها على يد تيمور، كذلك إلى حجم هائل من المعدّات التّكنولوجيّة والأموال الّتي تتراوح تقديراتها بين ٤٠٠ و ١٢٠٠ مليار دولار! وهذا في بلد أصبح أسير العقوبات والحصارات والاحتلالات والتّفاهمات الدّوليّة الّتي لايملك السّوريّون – وهم يتهافتون على إفناء بعضهم بعضاً – أيّةَ قدرةٍ على التّحرّر من نيرها، فضلاً عن افتقارِ سوريّة إلى الثّروات الطّبيعة  وحقيقةِ أنّ فجوةَ تخلّفها عن التّطوّر العالميّ كانت هائلةً بالأصل قبل بدء الكارثة، عندما كان الفساد الهائل قد استنزفها حتّى أعجزها عن توفير الغذاء واللّباس والسّكن الضّروريّ وأبسط مستويات الصّحّة والتّعليم – بشكل لائقٍ –  لأهلها…
فكيف يمكن تقدير الزّمن المطلوب للخروج من تحت الدّمار؟
اذا كانت إعادة الإعمار لايمكن أن تنجز إلّا بأيادي أصحاب البلاد المدمّرة؛ كيف لذلك أن يتمّ وربع سكّان سوريّة خارج الحدود، والربّع الآخر نازح في الدّاخل، وأغلبهم إمّا غير راغب بالعودة أو لايراد له أن يعود، لاعتبارهم ” فائضاً بشريّاً مطلقاً يفوق قدرات البلد على الاستيعاب!، حسب المالتوسيين، أمثال الأستاذ الجامعيّ الفرنسيّ الّذي (بشرّنا) قبل أيّام في مقابلة على التّلفزيون الفرنسيّ بأنّ ثلاثة ملايين سوريّ آخر سيلحقون بسابقيهم إلى الشّتات مع استمرار الحرب، لتكون سوريّة الدّولة صاحبة الرّقم الأكبر في العالم من حيث عدد أهلها المطرودين إلى الشّتات اقتصاديّا وحربيّا وإرهابّا، وبجميع أشكال القمع الّتي عرفها والّتي لم يعرفها التّاريخ، فإذا كان هذا هو الحال فكيف يكون بمقدور أحدٍ إعطاء الكلفة التقديرية او عدد السّنين المطلوبة لعودة سوريّة إلى الوضع الطبيعيّ؟
ويزداد الأمر صعوبة اإذا علمنا أنّه في الوقت الّذي مايزال البحث جارياً عن “جسر اللّوزية ” من أجل تدميره، بعد أن لم يبق غيره ما يستأهل التّدمير (وهي الطّرفة المؤلمة الّتي سرت في لبنان أثناء حرب ٢٠٠٦ عندما استمرّ الطّيران الإسرائيليّ يسبر الأراضي اللّبنانيّة بعد تدمير جميع الجسور عليها، وهي تسري الآن في سوريّة، حيث يجري البحث المحموم من قبل كلّ من هبّ ودبّ عن “جسر اللّوزية ” السّوريّ لتدميره علّه يقنع المعتدين بأنّ الحرب قد “حقّقت أهدافها” المرسومة!
وإذا علمنا كذلك أنّه إلى أن يجري تدمير “جسر اللّوزية” المفترض فإنّ البشريّة ستكون قد غادرت إلى مواقع متقدّمة جدّاً وغير قابلة للّحاق!
نعم، كنا قد أطلقنا في السّنوات الاولى من السّبع العجاف بعض التّخمينات، سواء للتكاليف أو للسنوات المطلوبة للخروج من تحت أنقاض الكارثة الماحقة الّتي يزداد الإصرار على إسباغ سمات “المفخرة” عليها، ولكن لم تكن في الحقيقة أكثر من تخمينات افتراضية ارتجاليّة، تحذيراً من مغبّة الاستمرار في الهمجيّة، وتحريضاً لما تبقّى من العقل والضّمير الإنسانيّين، إذا كان قد بقي منهما بقيّة، من أجل التّوقّف عن الخيارات المنحرفة المجنونة!
و يجب أن أضيف أنّ الّذي تحقّق فعلاً وبشهوانيّة فوق وحشيّة هو الخروج من الجغرافيا والتّاريخ العالميّين، وهو ماكنت قد دأبت على التّحذير منه سنوات طوال أثناء محاضراتي واأثناء ندوات الثّلاثاء الاقتصاديّة بدمشق، في ظلّ ظروف شبه اعتياديّة ٱنذاك، وكان الجواب الوحيد علي هذا التّحذير هو الاتّهام بأنّه “تحريض على الحرب الأهليّة” ( كذا !)، وكمحاولة لتغييب العقل عن الفساد الواقع، أنّه “تنكّر للإيمان بالوعد الإلهيّ (كذا) بأن يستحيل خروج هذه الأمّة من التّاريخ والجغرافيا لأنّ الله سبحانه وتعالى هُو الضّامن لبقائها في مركز القلب من التّاريخ والجغرافيا العالميّين!”
فهل كانوا، أم هل مازالوا يعتقدون أنّهم “في القلب”؟
أم أنّ الله هو من تخلّى عن ضمانته لأنّنا أمّة لانستأهلها؟
وأخيراً، لابدّ من القول بأنّ التّاريخ هو صناعة بشريّة محضة، وعلى السّوريّين أن يثبتوا أنّهم قد وعوا مدى الانحراف الّذي بلغوه، وأنّهم عن هذا الانحراف لمنكفئون، ليسلكوا السّكّة العامّة الّتي يسير عليها قطار التّطوّر العالميّ، الّذي لايمكن أن يتحرّك بوقود من الأوهام والرّغائب والضّمانات، وإانّما. فقط بقوة العلم وبالعمل الدّؤوب المنتج، وبالتضامن والتّكافل والتّعاون في إطار نظام اجتماعيّ ديمقراطيّ إنسانيّ.

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

جائحة كورونا اللّغويّة

ماريانّا ماسّـا – إيطاليا منذ أن اجتاح وباء الفيروس التّاجيّ الكوكب وغيّر إيقاع الحياة فيه، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *