الرئيسية / ذاكرة الملتقى/ سوريّات / طرائفُ أسماءِ الأماكن الدّمشقيّة

طرائفُ أسماءِ الأماكن الدّمشقيّة

طرائفُ أسماءِ الأماكن الدّمشقيّة

كلُّ زقاقٍ في دمشق وكلُّ حجرٍ فيه أو زاوية ممرُّ عبورٍ نحو مجاهلِ المدينةِ الأقدم في العالم الّتي لا تزال مأهولةً بالسكّان. والنّبشُ في صناديقِ أسماءِ أمكنتِها متعةٌ كبيرةٌ لما فيها من طرافة، وبالأخصّ التّشبيهات والكنايات الغريبة المتّصلة بها؛ كاسم زقاق “مطرح ما ضيّع القرد ابنو”، وزقاق “الولاويل”، أو جامع التّوبة، أو حارة الخمّارات..

لكلِّ اسمٍ حكايةٌ، وكلُّ حكايةٍ دعوةٌ لاكتشافِ الماضي ضمن حالةٍ من الاستلاب السّحريّ، تؤلّف زمنَها الخاصَّ ما بين الآن والأمس الغائر في عمق التّاريخ والأنا. والطّرافةُ في تسمية الأماكن الدّمشقيّة جزءٌ من طرافة الدّمشقيّ المعروف بالدماثة واللّباقة المبالغ فيها، وهو ما يتعارف عليه بالدّمشقة، كونه ابنَ بيئةٍ تجاريّةٍ منفتحةٍ على الآخر، إذْ ليس من السّهل التّعرّف على مشاعر الدّمشقيّ الحقيقيّة تجاه الغرباء، لأنّه يخاطب الجميعَ كأنّهم من أهل بيته، حيث يمنح الغريب شعوراً بالألفة دون أن يضطرّ الدّمشقيُّ لبذل جهد يتجاوز المعسول من الكلمات.
من هنا تبدو غالبيّةُ الأسماء الطّريفة للأمكنة الدّمشقيّة نابعةً من قصص وأساطير تعبّر عن الخصوصيّة الدّمشقيّة.
زقاق القرد مثلاً سمي بذلك كناية عن ضيقه، وإذا ما سألنا دمشقيّاً عن سبب هذه التّسمية أجاب” إنّه “زقاق مدخلج، فيه فوتات وطلعات وزواريب و زوابيق”، أي أنّ هذا الشّارع كثير التّعرّجات والتّقاطعات الضّيقة، بحيث يكاد الإنسان يضيع فيه عن سبيله. وكما للقرد زقاقٌ في دمشق هناك أيضاً حارات للكلبة والجردون والقطط.
تقع حارة الكلبة داخل حارة المفتي بسوق ساروجة. وسبب التّسمية كما تذكره العامّة “أنّ كلبةً ولدت جِراءَها فيها”. أمّا حارة القطّ الواقعة جنوبيّ حيّ الأمين بمحاذاة السّور من الدّاخل فكانت تسمّى قديماً (بستان القطّ) نسبةً إلى اسم عائلة أو لقب شخص، ولا علاقة لها بالقطط. ورغم أنّ العامّة ترفض أن تربط اسم الحارة بالقطّ بمعنى الهرّ؛ فهم يسمّون حارةً أخرى قرب جامع الورد في سوق ساروجة (بحارة الجردون)، لكنْ لم يجر تدوين أسباب تسميتها تاريخيّاً سوى ما يتبادر إلى الذّهن من قصص مبتدعةٍ ترتبط بمواصفات ذلك الجردون الّذي يستحقّ أن يسمّى حيٌّ باسمه!
وهناك (حارة الزّطّ) الّتي جاءت تسميتُها بناءً على تركيبتها الاجتماعيّة، وهي الحارة الواقعة في الشّاغور الجوّانيّ والممتدّة من الباب الصّغير حتّى شارع الأمين، والمسكونة من قبل جماعة “الزّطّ” ذات السّمعة الوضيعة في المجتمعات العربيّة، حيث يضرب المثل بحقارة أفرادها وخسّتهم، إذ تعتبر كلمة الزّطيّ من الشّتائم الفادحة، ومن تهكّمات الدّمشقيّين ذلك المثل الشّائع (طِلِعْ من بيت الزّطّ مؤذّن)! والمفارقة أنّ هذه الحارة اليوم تدعى (جادّة الإصلاح).
تلك التّسميات الّتي تحمل دلالاتٍ سلبيّةً تعكس إلى حدّ ما سمات المكان، رغم أنّ دلالات التّسمية في ظاهرها قد لا تتوافق مع أصل اشتقاقها، فـ “سوق قميلة” الّتي يظنّ للوهلة الأولى أنّها مشتقّة من “قمل” تبدو عكس ذلك، رغم أنّ معانيها أيضاً سلبيّة، وقد ورد اسم هذا السّوق المملوكيّ القريب من سوق النّسوان في رسالة “نزهة الرّفاق في شرح حال الأسواق” لمؤرّخ الشّام يوسف بن عبد الهادي إذ قال: سوق البيمارستان أو سوق برا أو سوق قميلة، والثّلاثة أسماء لسوقٍ واحدٍ تحت القلعة تباع فيه الخلقان، حُرِّفَ اسمه حديثاً ليصبح (ميله)، كناية عن البضاعة الرّديئة، فيقال بالدمشقيّة الدّارجة “إي شو جايبه من سوق ميله”، وتحوّل هذا الاسم إلى مصطلح يراد به سوق الألبسة المستعملة “البالة” (سوق أبو ميله).
ومن التّسميات المستطرفة في دمشق ما أطلق على بعض المقاهي مثل (قهوة خبّيني) بآخر سوق القباقبيّة جهةَ مقهى النّوفرة خلف الجامع الأمويّ. وقد شاعت هذه التّسمية بين النّاس في العهد العثمانيّ زمنَ الاتّحاديّين الأتراك، حين كانوا يعمدون إلى البحث عن الشّبّان لسوقهم إلى الخدمة العسكريّة وزجّهم في حرب (السّفر برلك)، وذلك على أساس مبدأ القرعة، كان ضابط مفرزة السّوق (الشّاويش) يعتمر قبّعةً طويلةً من اللّبّاد ويلقّب “أبو لبّادة”.. وللدلالة على عبوره السّوق يصرخ النّاس “عباية ..عباية” حتّى يتمكّن الشّبّان من الهرب، وسمّي المقهى (خبّيني) لأنّ الشّبّان غالباً ما يلجئون إليه طالبين الملاذ، قائلين لمن به: خبّيني. وتكاد تتقاطع ظروف قصّة تسمية ( قهوة خبّيني) مع قصّة (قهوة الله كريم) من حيث الطّرافة، إلّا أّن الأخيرة كانت للمتفائلين بغد أفضل من المتقاعدين، بينما خبّيني هي مقهى الهاربين من مستقبل مشؤوم.. وقهوة الله كريم الّتي كانت بقرب جامع “يلبغا” في محلّة البحصة معظمُ روّادها من ضبّاط الجيش العثمانيّ المتقاعدين الذين تمّ تسريحهم بعد خلع السّلطان عبد الحميد، وكان هؤلاء كلّما مرّ أمامهم ضابطٌ شابٌّ بزيِّهِ العسكريِّ المهيب وشاراته وأوسمته المذهّبة يقولون مع تنهيدة: “إيه …..الله كريم” أملاً بعودتهم إلى الخدمة، ورجوع أيّام العزّ السّابقة برجوع السّلطان . بينما سمّيت “قهوة خود عليك” في منطقة الشّادروان على طريق بيروت القديم بهذا الاسم كناية عن ازدحامها، حيث يطلب الدّاخل إليها مكاناً من الجالس بالقول وسّع لي مكاناً بجانبك أي “خود عليك”. إلّا أنّ هذا المكان زال تماماً بعد أن احتلّته المقاصف والمطاعم الحديثة.
وممّا يشير – أيضاً – إلى توقّد الرّوح الدّمشقيّة في اختراع تسميات أماكنها (مقهى التّايبين) الواقع عند مفرق المزّة في الرّبوة، فعدمُ وجود ألعاب “قمار” في صالته جعل روّاده يطلقون عليه اسم “التّايبين”.

• سعاد جروس 

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

حلـب في الأرشيف العثمانيّ..

“لقد دهشتُ ممّا وجدتُه من تطوّرِ مدينةِ حلب وتوسّعها وامتداد العمران في محيطها. ويعود الفضل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *