بعد الحياة بخطوة/ يحيى القيسي*
وصلته نبضات الخيط الضّوئيّ فتشوّشت رؤاه، وانتقلت له صورة جسده الأرضيّ مباشرة، وما يجري حوله، تماماً مثلما يحدث في أيّ كابوس ليليّ.
جاء والده لزيارته في المستشفى برفقة ابنه الصّغير، والتقيا هناك بعض زملائه من المعلّمين والطّلبة، الّذين أحضروا باقة ورد وضعوها قرب باب غرفة العناية الحثيثة، ثمّ سلّموا على والده ومضوا، بعدما اشتغلت ألسنتهم بالدعاء له بالشفاء القريب.
لم يكن من الممكن الاقتراب من جسده الهزيل الغارق في الغيبوبة، المشبوك بالأنابيب والمجسّات وأجهزة المراقبة، فالأطبّاء منعوا زيارته المباشرة، وطلبوا من الجميع الاكتفاء بالنظر إليه من بعيد من خلال الحاجز الزّجاجيّ..!
بدا والده في سنيِّ شيخوخته مرهقاً وشديد القلق، محتضناً حفيده طوال الوقت، ومحاولاً طمأنته والدّموع تغالبه، بأنّ والده سيكون بخير..!
من الواضح أنّ غيبوبته قد طالت بالنسبة للعائلة، وأنّ من الممكن أن يخسروه بالموت الّذي تتزايد احتمالاته يوماً بعد آخر. ظهر هذا الخيار المُرعب ليشكّل حالة من التوتّر بين الزّوجة والأولاد، وبقيّة أفراد العائلة. من المؤكّد أنّ رحيله معناه أن ينقصم ظهر زوجته تماماً، وأن تتحمّل مسؤوليّة العائلة باكراً، لهذا بدأ الأمل يتضاءل بعد مرور أسبوعين على هذه الحالة من العطالة التامّة..!
ما دامت تلك الحياة الأرضيّة تبدو له حلماً مزعجاً في منام، أو حياة افتراضيّة على الأرجح، وأنّه الآن في موطنه الحقيقيّ هنا، فقد ظهرت له فرصة العودة إلى هناك من جديد خياراً غير مطروح أصلاً، ولا يتخيّل حدوثه، فأيّة فاجعة أكثر من مغادرة الإنسان موطنه الأصليّ…!
التقى (مريم)في بيتهم الهادئ. أخبرته أنّها تريد أن تقدّم له هديّة في مناسبة انتقاله إلى (المستقرّ)، خصوصاً وقد بدأ اعتياد الحياة هنا، واستيعاب قوانينها، وبعض تفاصيلها.
في الحقيقة بدت عليه الدهشة، بل أصابته الصّدمة، وهي تدعوه لحضور أمسيّة غنائيّة لـ (أمّ كلثوم)، فما الّذي أتى بهذه المطربة إلى هنا، وكلّ من عرف من قبل يظنّونها تتلوّى في غياهب الجحيم..!
أخبرته أنّ (أمّ كلثوم) من الشّخصيّات الفنّيّة المعروفة هنا، وهي منذ (انتقلت) عادت لاستكمال مسيرتها الغنائيّة، وطوّرت تجربتها كثيراً، فالانتقال إلى هنا ليس نهاية المرء، كما عرفت بنفسك، بل استمرار للحياة بطريقة أخرى.
حين رأته، والدّهشة ما تزال طافحة على وجهه أضافت:
– الكثير من الفنّانين في الرّسم والموسيقى والغناء والعمارة وسائر أقسام الفنّ، ممّن عاشوا على الأرض عادوا هنا لممارسة حياتهم من جديد، بصورة أكثر إبداعاً، وقد تعرّفت إلى الكثير منهم عن قرب، والتقيهم أحياناً.
قالت له أيضاً إنّها مذ انتقلت طفلة إلى هنا تابعت الكثير من الدّروس الفنّيّة في المدارس المتخصّصة، وتتلمذت على أيدي كبار العازفين، وهي تتقن العزف على البيانو وتلحّن أحياناً، إضافة إلى دورها في مساعدة القادمين من الأطفال على التأقلم هنا، واعتياد الحياة الجديدة..!
أحسّ بذاكرته الأرضيّة تعود إليه بقوّة. تذكّر ذلك اللقاء العاصف مع زميلهم (أبو قتادة) الّذي كان يوزّع عليهم المنشورات الدّينيّة لجماعته في السّنة الجامعيّة الأولى، ويحذّرهم من سماع أيّ لحن لأنّ ذلك حرام، وكلّ من يستمع إلى الموسيقى والغناء سوف يصبّ الرّصاص المذاب بعد الموت في أذنه عقاباً له، فما بالك لو قلت له ما رأيك بسماع (الأطلال) لأمّ كلثوم، أو حتّى تواشيح النّقشبنديّ المختلطة بالموسيقى. عجب لسهولة تصنيف النّاس إلى الإيمان أو الكفر عند هذا الشّاب، والحكم على حياتهم بعد الموت بالنعيم أو الجحيم، ومن المؤكّد أنّ (أمّ كلثوم) بناء على أفكاره ستكون في الطّبقة السّادسة من الدّرك الأسفل..!
قادته “(مريم) إلى المسرح الضّخم الّذي يشبه المدرّج الرّياضيّ الدّائريّ المكشوف من الأعلى، والمليء بمقاعد وثيرة غير متلاصقة، إذ تعطي نوعاً من الخصوصيّة لكلّ مُشاهد، فيما وضعت منصّة مرتفعة في المنتصف تبدو معلّقة في الفراغ، وهي مخصّصة كما يبدو للفرقة الّتي لم تكن قد أخذت مكانها بعد. يستطيع أيّ جالس أن يراها كاملة من مقعده، كأنّها موجّهة خصّيصا له، لم تكن هناك تجهيزات للصوت والإضاءة إذ لا حاجة لمثل هذه التّقنيّات البدائيّة هنا..!
بدأ النّاس يتوافدون رجالاً ونساءً، وقد أخذوا زينتهم بكامل بهائها. عجب لأنّهم من جنسيّات مختلفة. بعضهم قادم من حضارات قديمة، فكيف يمكن للهنديّ الأحمر أن يفهم الغناء بالعربيّة، أو لسيّدة من الحضارة الصّينيّة أو السّومريّة الّتي بادت أن تتفاعل مع مثل هذه الألحان. تذكّر أنّ اللّغة هنا لا تشكّل عائقاً، أمّا الموسيقى فهي تدخل إلى أعماقهم بلا أيّ استئذان..!
لم ينتبه أحدٌ لوجوده، فكلّ فرد من الحاضرين منشغلٌ بمن يرافقه، ولا دور للفضول الأرضيّ هنا، كما أنّ تقسيمات الحضور ليست طبقيّة، فالكلّ في نعيم وغنى، بيد أنّه لاحظ أنّ بعض الحاضرين كان لهم مقام أعلى من الآخرين، من ناحية الاحترام والجمال وسطوع الأنوار، فالرقيّ الرّوحيّ هو المقياس هنا، وليس أيّ جانب آخر. ثمّة طبقة من المرشدين القدماء هنا، وأخرى من المعلّمين الكبار، إضافة بالطبع إلى (الوكيل) والمسؤولين عن القطاعات كلّها، لكن ذلك يجعل هذه الطّبقات أكثر تواضعاً، لا يصدر منهم إلّا المزيد من مشاعر اللّطف والمحبّة نحو الآخرين، والرّغبة في خدمتهم، إذ لا مجال هنا للتكبّر أو حبّ السّيطرة، فكلّما ارتفعت مكانة الشّخص زاد تواضعه وعظمت أخلاقه..!
بدأ وصول العازفين. رأى أوّلاً عازف الأكورديون يهبط من الأعلى بآلته محمولاً على رفارف من الرّيش ليستقرّ على كرسيّه، ومع قدومه انطلقت موسيقى آلته تؤذن بدخوله، مرفوقةً بطبقة من الألوان والتّشكيلات البهيجة، الّتي انتشرت في الفضاء المفتوح.
بدت له الموسيقى مرئيّة ومسموعة ترافقها أيضاً روائح تميّزها من العود والعنبر والمسك وبعضها يُحيل إلى الأزهار، والورود البرّيّة، وأوّل المطر، وما لا يحصى من العطور الّتي لم يشمّها أنف بشريّ على الأرض من قبل..!
راح يحدّث نفسه منتشياً:
(لو كتبت في وصف هذه التّجربة الخرافيّة آلاف الصّفحات، أو تحدّثت آلاف الأيّام لبقي ذلك إشارة لا تغني عن الذّوق المباشر، والانغماس بكلّ هذا الجمال..).
وصل بقيّة العازفين بالطريقة نفسها حتّى اكتملت الفرقة الّتي ضمّت آلات موسيقيّة، وتريّة أو نفخيّة أو إيقاعيّة أو مختلطة، منها ما لم ير شبيهاً له على الأرض، ثم سمع الحضور صوتاً ينشد الشّعر الّذي ستغنّيه (أمّ كلثوم) حال وصولها.
قالت (مريم):
– هذا الشّاعر أحمد شوقي.
فهم منها أنّه يعيش هنا منذ انتقاله، وشخصيّته معروفة للجميع، إذ واصل كتابة أشعاره الرّائعة، وله الكثير من الدّواوين الجديدة الّتي تبدو أشعاره الأرضية الّتي نشرها من قبل نسخة قاصرة ومقفرة عنها.
حين بدأ ينشد الأشعار بدت له في جمال كلماتها، وقوّة سبكها، وغنى صورها، وعمق دلالاتها، شيئاً لم يشهده في كلّ ما قرأ من كتب الشّعراء الّذين أفنى حياته التّعليميّة، وهو يقوم بتدريسهم للطلبة..!
ظهر (شوقي) لوهلة أمام الجماهير الّتي صفّقت له كثيراً، وأرسلت طاقات الحبّ المرئيّة والورود تعبيراً عن فرحها بما قرأ. كان بحلّته الجديدة يبدو أكثر بهاءً رغم أنّ ملامحه الأرضيّة الّتي يعرفها من خلال الصّور هي المُهيمنة عليه حيث الشّارب الكثّ، والوجه الوادع مع وضاءة بالغة، وحيويّة دافقة..!
دخلت (أم ّكلثوم) على رفرف جديد يشبه المحفّة الذّهبيّة، محاطة بهالة عجيبة من الأنوار، فالمرأة على ما يبدو قد اكتسبت في حياتها الأرضيّة الكثير منها، خصوصاً أنّها أخلصت في إشاعة المحبّة ومشاعر الفرح ونشر قيم الجمال لكلّ من حولها. ربّما هذا ما شفع لها، فالحسابات هنا مختلفة عما يتخيّل النّاس، الّذين يستغرقون في الطّقوس الظّاهريّة، وينسون إصلاح النّفوس الباطنيّة، ونشر المحبّة والسّعادة لغيرهم.
يظنّون واهمين أنّ ربّهم بشريٌ مثلهم يمكن الضّحك عليه بالقليل من معسول الكلام، والخداع بادّعاء التّقوى، والتّظاهر بفعل الخير، والمراءاة أمام النّاس..!
حين بدأت السّيّدة بالغناء بمرافقة أعظم العازفين وجوقة المنشدين. راح يغرق في نشوة عميقة مُنسحباً مع نبرات صوتها الّذي يسمعه لأوّل مرّة بمثل هذا البهاء، وهو يجري في أعماقه، معيداً ترتيب كلّ ذرّات كيانه، وممشّطاً ما تبقى من كآبة وأحزان مرّت عليه في حيواته السّحيقة..
تضافر الغناء والموسيقى وأصوات الجوقة معاً ليوقظ في داخله أنهاراً من خمر رائق، ويزرع حدائق من ورود، لا شيء يماثل جمالها، وعبق رائحتها، فيما راحت ملايين الفراشات تطير من جسده ليصبح أكثر خفّة، وتأخذه عالياً في رحلة لعوالم لم يرها أحد..
أحسّ أنّ الجميع غارق مثله في غبطته، فصوتها الأرضيّ الّذي تعوّد عليه لا يقارن أبداً بما سمعه هنا. إذ يبدو مفعماً بخالص المسرّات والرّوعة وهو يهزّ كيانه، في هذه اللّحظات..
(لا تحدّثوني عن الأغاني الّتي عرفتها من قبل، ولا الألحان والأناشيد والإيقاعات، ولا أصوات المنشدين والمدّاحين والقوّالين، ولا ما تجود به عادة الدّفوف، والمزامير، والطّنابير، والصّنجات، والأعواد، والرّبابات، والسّناطير، ولا المزاهر، والمندولينات، والبيانوات، والأجراس، والأبواق، والنّايات، والغيثارات، والقوانين، والأكورديونات. كلّأ ليس شيئاً من ذلك ما سمعته، بل حالة سرمديّة من التّحليق المتواصل على ظهر موجة من الأنوار الملوّنة تسحبني معها إلى رحلة علويّة مسكرة..).
شكر (مريم) كثيراً لأنَّ هذه التّجربة لا يمكن نسيانها. فهم منها أنّ الكثير من الأدباء والفنّانين الّذين كانوا مشهورين في الأرض، يواصلون إبداعهم هنا. بعضهم يوحي عبر الإملاء أو الإلهام لمن يختار من أهل الأرض ليساعده في إبداعه، ويلهمه الموضوعات والأفكار الجديدة، ومن هؤلاء المعروفين هنا: أبو الطّيّب المتنبي، وشكسبير، وبيتهوفن، وليوناردو دافنشي، والحلاّج، والرّومي.. وغيرهم الكثير.
قالت إنّ المرء هنا قد يقضي وقتا طويلاً دون أن يحيط بإبداعاتهم، ويتعرّف إلى عمق ما أنجزوه. لديهم تجمّعات خاصّة بهم، وخطط لا تنتهي، لكنّ الطّريف في الموضوع أنّ مقابلتهم ليست بالأمر الصّعب، فالتواضع الجمّ، والرّغبة بالعطاء من شيمهم، إذ لا مقارنة لتصرّفات بعضهم السّابقة، بعد أن وصلوا بالترقية إلى هذا المقام..!
حين عادا إلى البيت، كان ما يزال ممتلئاً حدّ الثّمالة من أثر الموسيقى والغناء، وحتّى لا تتسرّب منه هذه الحالة العليا، راح يغرق في قيلولة عميقة.
* روائيّ وإعلاميّ من الأردن، و(بعد الحياة بخطوة) فصلٌ من رواية بالعنوان ذاته، صدرت عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنّشر في بيروت وعمّان (آذار 2018).