الرئيسية / شارع الثّقافة / في رثاء الكتابة والكتاب

في رثاء الكتابة والكتاب

*خالد النّجّار

أجل، لقد ابتذل الكِتَابُ اليوم؛ زالت عنه تلك الهالة الّتي ظلّت تحيطه منذ العصور الدّينيّة الأولى حيث ارتبط بالمقدّس، بالخارق. كانت للكلمة المكتوبة قوّة خفيّة. كلُّ تلك الكتابات المقدّسة والتّعاويذ الّتي نلقاها على جدران المعابد الفرعونيّة وفي المدافن والقبور في الكثير من الثّقافات القديمة شاهدةٌ على اعتقاد الإنسان بتلك القوّة الخارقة والخفيّة والسّحريّة للحرف المكتوب وكذلك للكلمة المنطوقة، ففي «ألف ليلة وليلة» يخاطب الفتى الحجر: افتح يا سمسم، فيتحرّك الحجر، والمعنى رمزيّ، والمقصود أنّ قوّة الكلمة من الممكن أن تحرّك الحجر.
وما تزال إلى اليوم بقايا هذه الممارسات الطّقسيّة، وذاك الاعتقاد في مدى قوّة الكتابة وتأثيرها الخارق؛ نجد ذلك في التّعاويذ والحروز الّتي تضعها الأمّهات على صدور أبنائهنّ حماية لهم من الأذى ومن العين الشّرّيرة.
واستمرّ تبجيل الكتابة والنّظر إلى قوّة تأثيرها الغامضة في الأدب، ففي الحديث الشّريف الّذي رواه البخاريّ «إنّ من البيان لسحراً».
في معنى قريب غير دينيّ، نجد الرّومانسيّين يربطون بين الكتابة والرّؤية، وأنّ الشّاعر صاحب نبوءة وباحث عن سحر الكلمة… وتيوفيل غوتييه الشّاعر الفرنسيّ الرّومانسيّ هو الّذي أوجد أواسط القرن التّاسع عشر هذا التّعبير: سحر الكلمة. وتبعه بودلير الّذي يعتبر الكتابة الشّعريّة وسيطاً بين الشّاعر وذاك العالم الأفلاطونيّ المخفيّ المستتر الّذي لن يتجلّى إلّأ من خلال سحر الكلمة.
ويأتي من بعده رامبو وفي «فصل في الجحيم» يقرّر أنّ خيمياء الكلمة، أيّ الخلطة السّحريّة للكلمة، قادرة على تغيير العالم بفعل قوّتها السّحريّة، كتب في افتتاح قصيدته النّثريّة الطويلة «فصل في الجحيم»:
«أحلم بحروب صليبيّة… برحلات اكتشاف غير مدوّنة… بإزاحة الشّعوب والقارّات عن مواقعها فأنا أعتقد بكلّ أشكال السّحر».
وربط السّرياليّون بين الكتابة والتّعبير عن الأعماق الخفيّة في لا وعي الإنسان، تلك الأصقاع النّائية المظلمة من ذاته الّتي لن تتجلّى سوى من خلال الكلمة المكتوبة بشكل أوتوماتيكيّ مكتوبة عفواً وبلا قصد وتفكير مسبق.
ورأى بورخيس أنّ الكتابة تتماهى مع المطلق، لأنّها لا نهائيّة مثل الرّمل، لذلك وضع كتاباً سمّاه «كتاب الرّمل».
ولدى هيدغير، الشّاعرُ هو من يقول المقدّس، ففي كتابه الّذي بعنوان «ما الميتافيزيقا» كتب: «الفيلسوف يعبّر عن الكينونة أمّا الشّاعر فيقول المقدّس»… وهو لا يقصد المقدّس بالمعنى الدّينيّ.
اليوم بدأ هذا العالم في الخبو، وظلّ الشّعر آخر معاقل الكلمة، ولكن من سوى الشّعراء يهتمّ بالشعر اليوم. نسي العالم الشّعر بنسيانه الكينونة، وأشاحت دور النّشر عن الشّعر، وأنت نادراً ما تجد مكتبة تضع الشّعر في مقدّمة العرض، بل أكاد أقول لا توجد هذه المكتبة باستثناء المكتبات المتخصّصة في الشّعر، وهي نادرة جدّاً سوى واحدة في كلّ مدينة أمستردام اسمها «الشّعر الّذي ضاع»، وهي تسمية ذات دلالة. أشاح العالم عن الكلمة الشّعريّة آخر معقل للمقدّس وحلّ محلّها النّصّ الرّوائيّ التّجاريّ، والكتاب اليوم وبفعل التّطوّر المهول لوسائل الطّباعة وسرعة التّدوين تحوّل إلى بضاعة، وتحوّل النّشر إلى صناعة. صار النّاشرون الكبار مثل رجال الصّناعة، وبتحوّل الكتاب إلى بضاعة من بين البضائع الأخرى لم تعد له تلك الهالة، بل كثيراً ما ابتذل، غادر عالم النّخبة، واستولى عليه التّجّار والمقاولون والمتعهّدون ومروّجو البضاعة، باختصار سقط الكتاب في شبكة السّوق. كتب الشّاعر الفرنسي أندريه فالتير – الّذي قدّم على امتداد سنوات طويلة عروضاً للكتب في إذاعة «فرانس كولتور» – بجريدة «لوموند» الفرنسيّة: «إنّ كثيراً من الكتب ليس لها من الكتاب سوى شكله».
ولم يعد الكتاب يستمدّ قيمته مما بين دفّتيه، بل صار بضاعة يتحكّم في نشرها التّسويق (الماركيتنغ)، وأوجدوا ظاهرة رديئة هي ظاهرة الكتاب الأكثر قراءة، وأوجدوا لذلك مواقع «الغود ريدز»، وهي مواقع دعائيّة أكثر منها مواقع معرفة بالكتاب الجيّد، يعني صار عدد القرّاء، وليس النّقّاد، هو المحدّد لقيمة الكتاب، ويضعون لذلك نجوم تقييم بالضبط كنجوم الفنادق الجيّدة، ممّا أزاح وظيفة النّاقد الكلاسيكيّة عن عرشها، والحقيقة هي على النّقيض من ذلك، لأنّ عدد القرّاء لا يعني أنّ الكتاب جيّد، بل الكتب الأكثر شعبيّة هي الكتب الأكثر رداءة، فالثقافة الرّاقية كانت وظلّت عبر التّاريخ نخبويّة، فأنت تستطيع أن تصدر كتاب هيدغير «الكينونة والزمن» في مليون نسخة، ولكن عدد القراء لن يتغير، سيظل عدداً قليلاً، وكأنّي بالسموءل الشّاعر الجاهليّ القديم يقصد النّخبة المبدعة إذ أنشد:
«تعيّرنا أنَّا قليل عديدنا فقلت لها إنّ الكرام قليل»
ولأنّ هذه المواقع تجاريّة، قامت أخيراً شركة «أمازون» العملاقة بشراء أكبرها، وهو موقع «غود ريدز»، لأنّه وفي حقيقته العميقة هو موقع تسويق… ومن النّتائج السّلبيّة لتحويل الكتاب إلى سلعة، تلك الحرب الّتي تقوم كلّ سنة بين دور النّشر حول جائزة «غنكور»، لأنّ الكتاب الّذي يحصل على الجائزة يتحوّل إلى «بسيت سيللر»، ويرفع مبيعات الدّار، وهكذا تجد لكلّ دار «لوبي» داخل لجان الجوائز.

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

“أنشودة وطن” جديد الشاعر السوري محمد عارف قسوم..

بقلم ‌نمير الصالح تحت عنوان “أنشودة وطن” نشر الشاعر السوري محمد عارف قسوم على قناة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *