الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / وحدها الأرواحُ مازالت تخفقُ هناك..

وحدها الأرواحُ مازالت تخفقُ هناك..

دخلنا بالسيّارة في حارةٍ ضيّقةٍ.. مجموعةٌ من اليماماتِ تَنْقُرْنَ بعضَ الخبزِ المفروطِ وسطَ الشّارع.. عند (الزّمّور) الأوّل استجابتْ إحداهُنَّ وطارت.. زمّورٌ آخر نهضت حمامتانِ وبقيتْ حمامةٌ واحدةٌ تتابعُ نَقْرَ الخبز بلامبالاة.. زمّورٌ آخر وأقوى؛ والحمامةُ في مكانها من دون أيّ حراك.. نَزَلْتُ من السيّارة نحوها، ظننتُها مصابةً، ولكنّها نظرتْ نحوي، ثمّ تابعت نَقْرَ الخبز.. مددتُ يدي نحوها في محاولةٍ لِحَمْلِها بعيداً، فنقرتني في يدي، وعادت لمكانها وسطَ الشّارع بعنادٍ مبالغٍ فيه، وكأنّها تقول لنا: تبّاً لكم! 
الزّمّور يعلو مجدّداً، وأنا أحاول هَشَّها بحضورِ ظلّي فوقها.. ومامن استجابة..
أُسْقِطَ في يدنا.. لم يكن هناك من خيارٍ آخر..
عادت بنا السّيّارةُ إلى الوراء.. وانتصرتِ الحمامةُ!

*  *  *  *  *  *  *

قليلاً ما أستخدمُ (قلمَ حُمْرَةٍ)، ولكنّني أشتريها بكثرةٍ. أنتقي الألوانَ المتنوّعةَ بعنايةٍ، أُفَضِّلُهَا بألوان فاتحةٍ من دون لمعان، وبطعمٍ لذيذٍ ورائحةٍ جذّابةٍ.. 
عندما أنوي الذّهابَ في زيارةٍ نَسَوِيَّةٍ أضعُ أحدَ تلك الأقلامِ في حقيبتي؛ عساني حين أصلُ إلى البيتِ المقصودِ أتذكّرُ قلمَ أحمر الشّفاه، وأدلّلُ به شفاهي..
وغالباً أنسى الموضوعَ تماماً حتّى نهاية الزّيارة، وأنسى القلمَ في حقيبتي!
اليوم؛ أضعتُ قلمَ اللّوح الأحمر، ومن دون أنْ أشعرَ فتحتُ الحقيبةَ، مَدَدْتُ يدي، تناولتُ قلمَ أحمر الشّفاه، فتحتُه، وكتبتُ به على السّبّورة..
لولا أنّه انكسر لم أكن لأنتبه إلى الموضوع، رغم ضحكات التّلاميذ المبطّنة..
ولكنّني تأمّلتُ اللّونَ على السّبّورة فأعجبني..
ووعدتُنِي بأنْ أشتري قلماً آخر بذات اللّون الورديِّ الباهتِ؛ لأكتبَ به على شفاهي حين ألتقيكَ، أو ربّما أرسمُ به صوتي على جدارِ قلبِكِ!

*  *  *  *  *  *  *

البيتُ المقابلُ لبيتِنا كان بيتاً ممتلئاً بالأطفال المشاكسين.. دائماً ثمّة خلاف بينهم، وعندما يتّفقون؛ فعلى رفعِ صوتِ الأغاني الرّائجة عالياً..
بعد عودتنا إلى بيتنا كان البيتُ خالياً كغالبيّة البيوتِ حولنا، أبوابُهً مُشْرَعَةٌ وشبابيكُه أيضاً.. فوضى تعمّ أرجاءَه مع بعض الملابسِ المنشورةِ على حبلِ الغسيل..

دميةٌ هنا، وبعضُ الدّفاترِ الممزّقةِ هناك.. لاريب تُرِكَ البيتُ على عَجَلٍ..
كلّما وقفتُ لِتَأَمُّلِ تفاصيلِه القريبةِ أَذْكُرُ كيف خرج الجميعُ في هذه البلاد على عَجَلٍ.. 
عُدْنَا وغالبيّة أهلِ الحيّ.. وكنتُ أرقب يوميّاً عودةَ أصحابِ هذا البيت بكلّ صخبِهِم..
مَرّ الرّبيعُ والصّيفُ والخريفُ، والبيتُ على حاله.. ومع اشتداد البرد سكنتِ الرّيحُ تفاصيلَه، وراحتْ تَعْبَثُ بأشيائه.. تحديداً بأبوابه..

صوتُ صَفْعِ الأبواب كان مصدرَ الأرقِ الجديد بالنسبة إليّ.. أبوابٌ لا تهدأ.. صار للصخب هناك مصدرٌ أشدّ إزعاجاً.. تحوّل إلى بيتٍ تسكنُه الأرواح، وكأنّ أرواحَ الغائبين جميعاً تجمّعت فيه.
ليلة البارحة ورغم اشتدادِ الرّيحِ وهبوبِها السّريعِ إلّا أنّه ما مِنْ صوتٍ صدر عن بيت الأرواح.. 
إذن؛ لقد عاد أصحابُ البيتِ، إنْ لم يكن للسكنِ فللاطمئنانِ على البيتِ، وإغلاق أبوابه المشرعة ونوافذه..
غفوتُ، والرّيحُ المطرودةُ من ذاك البيت تُراقصُ الأرواحَ في الفضاء..
صباحاً رُحْتُ أستطلعُ الخبرَ..
بيتُ الأرواحِ كان خالياً تماماً من الشّبابيك والأبواب والأشياء كلّها، حتّى مآخذ الكهرباء كانت مُنْتَزَعَةً من الجدران!
وحدها الأرواحُ مازالت تخفقُ هناك..

 لم يستطيعوا سرقتَها مجدّداً!

*  *  *  *  *  *  *

جارُنا الّذي رُزِقَ بثمانية من الذّكور كان يفاخرُ بهم أمام الجميعِ قائلاً: 
(سندي عندما أشيخ!).
ها هو يقفُ الآن بكامل عجزِهِ وحيداً أمام الفرن..

  • غفران طحّان

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *