الرئيسية / شارع الثّقافة / ملامح هويّة الشّاعر محمّد عارف قسّوم في مجموعة “صليل الآه”

ملامح هويّة الشّاعر محمّد عارف قسّوم في مجموعة “صليل الآه”

حين تُستَلُّ الآهُ من أغوار الصّدر سيفاً ينقطُ وجعاً…

مَن يُتَرجمُ أبجديّةَ صليلِ سيفِ الآه؟

مَن يرسم صدى تلك (الآه) المتجاوبِ وراء قضبانِ القلب؟

مَن يلوّنُ ألمَها النّابعَ من وجعِ الدّم؟ 

مَن يلملمُ رَجْعَ بَوْحِهَا المتلاطم في جنبات الصّدر؟

مَن يكتبُ صليلَ تلك الآه شعراً؟

إنّه الشّاعرُ.. وإنْ لم يفعل أو لم يستطعْ، فليس بشاعرٍ، ولو أُوتي البحرَ لكلماته مداداً..

فكيف بمن استطاعَ أنْ يجمعَ في كلمتين لا ثالثة لهما ما قلتُه، وعَنْوَنَ بهما مجموعتَه الشّعريّةَ (صليل الآه)..! ذلك هو الشّاعر محمّد عارف قسّوم

من هو محمّد عارف قسّوم؟

رأيتُ أن أُعَرِّفَ بمحمّد الإنسان من خلال معرفتي به، ثمّ بمحمّد الشّاعر من خلال هذه المجموعة.

محمّد الإنسان: عرفتُه وجهاً طافحاً بالبشاشة، مشعّاً بالحبّ، تهبُّ منه رائحةُ صحراءٍ عربيّةٍ معتّقة في أعماقه.. ملامحُهُ مكتظّةٌ بحكايا سجينةٍ وراء غلالةِ حزنٍ، وكبرياءِ بوحٍ، وفي أعماق عينيه يترقرق شعرٌ رماديٌّ يميل إلى السّوادِ، مقفّى بصمتٍ يشعّ هدوءاً، مهيباً حيناً وصخباً وغضباً ومشاكسةً حيناً آخر…

أخبرني مَرّةً أنّه يحبّ الزّهور، لكنّه يدرك أنّنا سُلِبنا حتّى الحوضَ الّذي سنزرعها فيه، خرجنا عارين حتّى من شُرفةٍ دائمةٍ لإناء وردة….. وأخبرني مَرّةً أخرى أنّه يشتهي أن يشتريَ قبيل العيد باقةَ ريحان؛ لكنّه يعرف أنْ لا قبر لنا نقف عليه يوم العيد لنزرع عليه ريحانَنَا ….  

أمّا محمّد الشّاعر فقد حاولتُ استخلاصَ ملامِحه من خلال هذه المجموعة، وبدءاً من العنوان:

حين وقفتُ أمام حَرَمِ هذا العنوان وجدتُ نفسي أمام قصيدة مكتظّةِ المعاني تتألّف من كلمتين؛ بل هي كلمةٌ ولاحقةٌ مضافةٌ لا أكثر (صليل الآه)..

وأنا من الّذين يؤمنون أنّ الشّاعر يكتب بكلماتٍ تنتمي إلى معجمِ (المُنكَر) مبتعدة عن معجم (المعروف) والمتداول، وللمنكر في الشّعر لذّةُ جدّتِهِ، وللمعروفِ مللُ تَكرارِهِ وسأمِ اعتيادِهِ، وربّ قائل: وهل يأتي الشّاعر بكلمات جديدة؟ فكلمات اللّغة هي ذاتها الّتي جمعت في المعاجم فهل يزيد الشّاعر عليها؟

أقول: الشّاعر يعرف كيف يزاوج بين الألفاظ ويلاقحها لتنجب معاني جديدةً لم تكن تحملها من قبل، كما يلاقح المزارع بين زهرتين لينتج زهرةً جديدةً..  

 فالشاعر يكتب بكلماتٍ ليست كالكلمات، بل هي أشبهُ بقنابلَ موقوتةٍ حين تمسُّها عيونُنا أو تصطدمُ بآذاننا تنفجر، وتنسف كلَّ القيود الّتي تكبّلنا بمعانيها المألوفة، فيخترق وقعُها آذانَنا بلذة المنكر من علاقات الألفاظ، مبتعداً بنا عن المعروف المألوف المتداول، ومع تتالي الانفجارات نجد أنفسَنا نتشظّى في غمامةٍ من الصّور والرّؤى والخيالات، غمامة سحر بغير جهات تحجب كلَّ ما حولنا، ثمّ تبدأ بالارتفاع بنا إلى عوالمَ جديدةٍ من المعاني … وشاهد ما أقول هذا العنوان:

الآه: اسمُ صوتٍ لرجعِ الألم، الألم الآتي من ظلمات أوغل فيها وجعٌ حبيسٌ مخنوق، يستنجد بهواءِ الصّدر ليحمل رسالَتَه إلى الآذان، لكنّها لطولِ مسيرتها وعمقِ منابعِها تصل إلى الشّفاه خائرةَ القوى، لم يبق منها سوى حدّةِ حرفِ الهمزةِ الممدودة، وانكسارات الهاء المتلاشية وهكذا تكون الـ (آااااااه).

أمّا الصّليل: فهو اسمُ صوتٍ أيضاً، لكنّه ليس صوت الوجع أوالمتوجِّع كـ (الآه)، بل هو صوتُ المُوجِع، صوتُ أداةٍ مُوجِعةٍ هي السّيف، وهنا نلاحظ أنّ الشّاعر جمع بين صوتين في العنوان صوتِ المتوجِّعِ وصوتِ المُوجِعِ.

ثمّ زاوج بين الصّوتين.. لاقح بينهما حين أسند الصّليلَ إلى الآه، فعكس المعنى المعجميّ السّابق، أي أصبح صوت المتوجِّع (الآه) أداةً موجِعةً هي السّيف الّذي له صليلٌ، ليكون بذلك صوتُ المتوجّعِ مُوجِعاً.

ومن زاويةٍ أخرى حين تصبح الآهُ سيفاً له صليل، والآهُ تَخرجُ من الصّدر وليس العكس، فسيفُها مُستَلٌّ منه، وليس مُغمَداً فيه، وبالتالي لا شكّ أنّه خرج محمّلاً بأسرار ظلماتِ وآلامِ وأوجاعِ ذاك الصّدر، وعلى الشّاعر أن يسكبها على الورق…. ولكنّه يفاجئُنا بأنّ الورقَ هو ذاك الصّليلُ (ورقي صليلُ الآه)..

ولا ننسى أنّ ثمّة علاقةً بين الورق ورهافته وطراوته وصقله وبين السّيف وصليله، وبذلك ستكون هي وجعه الخاصّ به  والموجِع لنا  فيقول:

وَرَقِي صَليلُ الآهِ..

محبرتي الدّموعُ..

وأحرفي السُّهْدُ

وحكايةُ الوجهِ الغريبِ..

تلوكُه النّظراتُ في المنفى

ويطحن عظمَه البَرْدُ

وهنا يحدّد الشّاعرُ مادّةَ شعره وأدواتِه من ورقٍ وحبرٍ وحروف، إضافة إلى الموضوع الّذي يؤرّقُه، فالورقُ هو صليل الآه، والورقةُ هي ما يمنح القصيدةَ جسدَها، وهذا الصّليل هو جسدُ القصيدة عند الشّاعر، وأمّا الدّم الّذي يسري في جسد القصيدة فهو الدّمع، ماء الألم (محبرتي الدّموع) وأمّا الحروف وهي اللّسان النّاطق لجسد القصيدة فهي مزيجٌ من (السّهد وحكاية الوجه الغريب) في المنفى حينما تلوكه النّظرات ويطحنه البرد، وهل من حروفٍ أكثر إيلاماً من هذا المزيج؟!

وهكذا لم نكن أمام عنوانٍ قدرَ ما كنّا أمام وعدٍ ووعيدٍ بالوجع..

سنحاول أن نستقرئ قصائدَ هذه المجموعة بحثاً عن ملامحِ هويّةِ الشّاعر وأبعاد أوجاعها الموجِعة.

واخترتُ البحثَ عن ملامح الهويّة وأبعادِها لأنّي أرى في هذه المرحلة لزاماً على المثقّف بشكل عامٍّ أنْ يحدّد هويّةً وموقفاً في أيّ عمل إبداعيّ يقدّمه.  

فممّا لا شكّ فيه أنّ العالم بشكلٍ عامّ ونحن بشكلٍ خاصٍّ نعيش في أزمة هُويّة، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ نتيجةَ ثورة الاتّصالات الّتي أزالت الحدود بين البشر، وحوّلت العالم إلى قرية صغيرة، فالعالم اليوم يتوازعه ثلاثةُ أطراف بالنسبة للهويّة؛ طرفٌ متمسّكٌ بهويّته، وآخرُ رافضٌ لها باحثٌ عن غيرها، وبينهما من يحاول التّوفيق بين أصالةِ هويّته وبين الهويّة الّتي يفرضها المدّ التّكنولوجيّ أو الحضاريّ.

ولا شكّ أنّ الهُويّةَ الفرديّةَ لشخصٍ ما هي مزيجٌ من هويّتين؛ هويّةِ الأنا وهويّةِ الجماعةِ الّتي ينتمي إليها، وبما أنّ جوهرَ الهويّةِ الفرديّةِ وعصبَها هو الذّات الّتي تشير إلى مجموعةٍ من الخصائصِ الشّخصيّةِ كالذوق والميول والرّغبات والمشاعر والأحلام. سأبدأ بتقصّي البعد الذّاتي ثمّ الوطنيّ فالقوميّ فالدينيّ فالإنسانيّ عند الشّاعر.

  • البعد الذّاتيّ:

قصائدُ هذه المجموعة تتضافر لترسمَ لنا صورةَ إنسانٍ هاربٍ من ضيق عالم الكراهية والحقد والضّغينة إلى عوالمَ ساميةٍ من الحبّ والتّسامح؛ ليتخذ منها مملكةً لخلاصه ولخلاصِ العالم، وليسموَ بها على كلّ من وما دونه، وتتجلّى من ذاك العلوّ ذاتُ الشّاعرِ المتساميةِ المترفّعةِ المُحْسِنَةِ حتّى لمن أساء إليها.. نفسٌ معطاءةٌ خَيّرةٌ وتزداد خيراً كلّما ازداد أعداؤها شرّاً؛ لأنّها مؤمنة بالحبّ، وبأن لا شيء يستطيع الوقوف أمامه، وجميع هذه المعاني نقرؤها مجتمعةً في نصّ (مملكة الحبّ) حيث يقول:

 هو (الحبُّ) مملكتي..

 كلُّ شيءٍ أمامَكَ لا شيء يا أيّها الحبُّ..

كلُّ الّذي.. والّذي.. والّذي..

لا يُعادلُ عندي قُلَامَةَ ظِفْرٍ..

وفي أحسنِ الحالِ ظِفْرا

لقد ضَيَّقُوا ما استَطاعُوا عَلَيَّ..

ولكنّني كُنْتُ أوسَعَ صَدْرَا

يزيدونَ شَرَّاً..

وأزدادُ خَيْرَا

وأُحْسِنُ حتَّى لِمَنْ قد أسَاءَ..

ويَلْتَمِسُ القلبُ لِلكلِّ عُذرا

ويؤكّد الشّاعر إيمانَه بالحبّ خلاصاً ودرباً للحياة، ومحال أن نعيش بغيره، ويرى أنّ اللهَ لم يجبله من ترابٍ كبقيةِ الخلق، بل جبله من طينِ الحبّ، فيقول في نصّ (بالحبّ نحيا):

عَذْبٌ هُــوَ الحبُّ.. حتّى في مَــرارَتِــــهِ

والحُــبُّ آخـــــــــرُهُ مُــــــرٌّ وَأَوَّلُــــــــهُ

مِنْ طِيْنِهِ اللهُ سَـــوَّاني.. وأحسَــــــبُـــهُ

بالحبِّ يَعْجِــنُ مَنْ يهــــوى ويَجْبلُــــــهُ

بالحبِّ نحيا.. محالٌ أنْ نعيشَ سِـــــوى

بالحبِّ يا أيُّهـــا الـْ: بالحقــــدِ مقتلُـــــهُ

فالحبُّ هو الّذي ينفخ الحياةَ في الموت، ولا طريق سواه للبشريّة كي تبلغ الرّشاد.

وكذلك في نصّ (أنا والقدس) يقول:

إنّه الحـــبُّ يبعـــث المَيْــــــتَ حيّـــــاً

ويُعيـــد العظــــــمَ الفتيت فتيّــــــــــــا

إنّــــــــه الحـــبُّ لا ســــــبيل ســـواهُ

نتقرّى بــــهِ الـطّــــريقَ الــسّـــــــويّا

كما يدعو في النّصّ ذاته إلى اعتماد الحبّ وسيلةً لبناء الغد المأمول:

ما علينا أنْ نملأ الكونَ بالحبّ.. ونبني به الغــدَ المأمولا 

ما علينـا والحبُّ دَيـنٌ قديـــــمٌ   مستحقٌّ لا يقبلُ التّأجيلا

كما أنّه يرى أنّ من تدرّع بالحبّ فلا خوف عليه، ولذلك لم يجد وصيّةً يُحصِّنُ بها ولدَه أفضلَ من الحبّ، فيقول موصياً ولده يوم مولده في نصّ (معراج القلوب):

هو الحـبُّ حصــــنُ الله جَـــــــلّ جلالـــه       

هو المنتهى العلويّ والمبتــدا القدســـيْ

خُـــــذِ الحبَّ تُرســـــــاً وادّرعْهُ مهنـــداً       

 ولا تخش درعاً بَعْدُ أو تخشَ من تُرسِ

وهذا الإيمان بالحبّ منح هويّةَ الشّاعر سمةَ الاعتدادِ والاعتزاز وسموّ الذّات، فهو الأقوى لأنّه تدرّع بالحبّ، فيقول في نصّ (سيعرفني أولاء):

يكيدون.. لا مَكْـــــــرٌ يحيــقُ ولا كيـدُ 

وينسونَ أنِّي السّـيفُ فــي حَدِّهِ الحَـدُّ

وأنَّهـــــــمُ أســرى ســـــــرابِ بقيعــةٍ  

 لَسُرْعَانَ ما يَخْفى وسُرْعَانَ ما يَبـدو

وشَـــــــــتَّانَ قَلْبٌ ملؤهُ الحــبُّ صافياً 

 وقلبُ لئيـــــمٍ ملـــــؤهُ اللّـؤمُ والحقـدُ

ومن خلال البيتين الأخيرين نلاحظ أنّ الشّاعرَ يستند في تحدّيه واعتداده هذا إلى قوّتين؛ هما قوّةُ الحبّ، وقوّةُ الإيمان بالله الّذي لا تقف جنودُه مع طرفِ الحقدِ واللؤمِ بل مع طرفِ الحبِّ الصّافي.

ولا شكّ أنّ الانحيازَ إلى عالمِ الحبِّ في زمنٍ ترتكز دعائمُه على الغدرِ والحقدِ واللّؤمِ سيؤدّي بهذه الذّات إلى عالم ٍاغترابيٍّ، حيث ستجد نفسَها وحيدةً مغتربة، ومنه سنقرأ ملحماً آخر من ملامح هويّة ذات الشّاعر وهو الاغتراب، حيث يشعر أنّه وهو المحبُّ الوفيُّ ما عاد ينتمي إلى أيّة أبوّةٍ تربطه بعوالمِ الكره ومن جبلوا على الغدر والخيانة فيقول:

أنا ابـنُ أنا، ضيــاءٌ ليــس يخبـــو

وحَقـْـلٌ مِنْ شَـــفِيفِ النّورِ خصْبُ

ووجـهٌ طـــاعنٌ في الحُسْــنِ حتّى

على قمريــــن لا كفّيـــــن يحبـــو

جُبِلْتُ على الوفـاءِ قميصَ صِـدقٍ

 سِـــوى لي إخـوةٌ خانوا.. وجـبُّ

ولا يخفى هنا ما في هذه الأبيات رغم خيبتها، من جماليّاتٍ فنّيّةٍ حيث اعتمد الشّاعرُ تقنيّةَ التّناصّ، متّخذاً من قصّة يوسف وغدر إخوته معادلاً موضوعيّاً لقصّته مع أبناء عصره.

 ويتابع في هذا النّصّ رحلةَ البحث عن وطن يرتضيه صدراً لحبّه، وليعلن براءته ـ إن لم يصل إلى ذاك الوطن ـ  ليس من قومه فحسب؛ بل منهم وممّا يعبدون، لأنّ دينَه القائمَ على الحبّ كافرٌ بدينهم:

فيا وطنـاً أفيءُ إليه شــــــــــرقاً

وغرباً، حيث لا شــرقٌ وغــربُ

إذا لم يُفْـضِ بعـد اليـــــوم دربٌ

إليـــكَ، ولم يَقُـدْ.. لا كــان دربُ

لَهـُـمْ دِيْــنٌ ولِي في الحُـبّ دِيْـنٌ

ولي غيــر الّذي يـدعـــونَ رَبُّ

وتتأزّم غربةُ الشّاعر عن محيطه إلى حدّ قوله:

 (لستُ سوايَ لستُ سوى أنا وسوى أنا لستُ)

 وطغيانُ هذه الأنا لم تهو بالشاعر إلى مهاوي الأنانيّة ونرجسيّة الذّات، بل ارتقت به إلى عوالم إنسانيّةٍ نبيلةٍ ساميةٍ، فصدرُه ملاذُ الخائفين، وصدرُه سقفُ من لا سقف له، ورغم ظلامِهم سيبقى شمسَهم.. كلُّ هذا لأنّه مؤمنٌ بأنّ الحبَّ ملحُ الحياة وزيتُها.. وهذا ما يقوله في نصّ (ملحُ الحياةِ الحبّ):

متفــرّدٌ بأناي، لسـتُ سوايَ، لســتُ سوى أنا، وسوى أنا لَسْتُ

وعلى امتــداد خطايَ منذ خَطَوتُهُنَّ نَســــيجَ وحـدي دائماً كُنْتُ

للحبّ بين النّاسِ ما ســــــأعيشُهُ ولأجلـــه ما عِشْـــتُهُ عشـــتُ

كلّي لكلّهـم الملاذُ وإنْ يَغِبْ ســَـــــقفٌ فقلبي السّـــــقفُ والبيتُ

وإذا بجلباب الظّــلام تقنّعــوا حَســـبي كوجهِ الشّـمسِ أشــرقتُ

مِلْــحُ الحياةِ الحبُّ، زيتُ إدامها.. أبـــداً يُخـانُ الملـــحُ والزّيتُ

والحبُّ يوســفُ حُسْــنِهِا وجَمَالِهـا فعلام أُعـــذَلُ إنْ لَهُ هِئْـتُ؟!

ولكنّ هذا الاغتراب الّذي يعيشه الشّاعر قد حفر ملمحاً آخر في هويّة ذاته؛ ألا وهو الحزن، وليس بحزنٍ فرديٍّ بل هو همٌّ جماعيٌّ، همُّ أمّةٍ يُحَمِّلُ الشّاعرُ نفسَه مسؤوليّةَ هديِها ورشادِها وإخراجِها من ظلمتها الّتي لا تريد منها خروجاً:

ففي نصّ (مهلاً أبا خالد):

مَنْ لي ببعضِ بلادٍ كي يلـــــــــوذ بها  

ذاك الّــــــذي في بلادِ الله جَــــــــوَّالُ؟

تَلُفُّـــــهُ الآهُ لا سُــــــكْنَى ولا سَــــكَنٌ  

ولا نـــدامى ولا أهــــــــــــــلٌ ولا آلُ

وفي حواريّةٍ بين الشّاعر وزوجه الّتي أدركت أنّه يحمل من الحزن ما هو كافٍ لكلّ البشر تقول له:

آهٍ عليـــــــكَ وآهٍ منـــــكَ يا رجــــــــــلُ 

حتّــامَ تلقـــى الّذي تلقــــى وتحتمـــلُ؟!

تقولُ: وَيْــكَ؛ اتَّئِــدْ.. هَوِّنْ عليكَ، فقـــد 

كادت لِفَـرْطِ بكاهــا (تكفـــــرُ) المقــــلُ

تَوَزَّعَ الحــزنُ بين النّــاسِ أجمعِهـــــمْ 

وأنتَ فيـكَ جميــــعُ الحـــزنِ يُخْتَــــزَلُ

قُمْ ضَمِّدِ الجرحَ..

ليتَ الأمرَ ما اعْتَقَدَتْ

مَــنْ كلُّ ما فيهِ جُرْحٌ كيف ينــدمــــلُ؟

وممّا سبق نستطيع أن نلخّص البعدَ الذّاتيّ لهويّة الشّاعر في عنواناتٍ عريضةٍ، وكلٌّ منها يستحقّ دراسةً خاصّة؛ هي الحبُّ والإيثارُ والتّسامحُ والتّسامي والاغترابُ والحزن.                                 

2– البعد الوطنيّ والقوميّ:

 بداية لابدّ من التّنويه أنّ من مهامّ الأدب الإسهامُ في تكوينِ ذاتِ الأمة، فمهمّةُ الأديب ومنذ القدم أن يصوّر للناس ما ينبغي أن يكون وأن يكونوا، وأنْ يقدّم موقفاً من خلال نظرةٍ شاملةٍ ومستقبليّة إلى الحياة، وليس فقط أن يصوّر ما هم فيه وعليه.

 فالعلاقةُ بين الهويّة الذّاتيّة للمبدع وبين هويّة وطنه وأمتّه علاقةٌ تبادليّةٌ، والأديبُ فيها فاعلٌ ومنفعلٌ، فكما تمنحه الأمّةُ أهمَّ مكوّنات هويّته؛ يساهم هو في الارتقاء بهويّة الأمّة بحكم أنّها ثابتٌ متغيّرٌ، وعليه أن يواكب التّطوّراتِ والأزماتِ الّتي تعترض الأمّة، وقد تودي بهويّتها..

ومن هنا نستطيع القول إنّ السّماتِ السّابقةَ الّتي طرحها الشّاعر القسّوم لهويّته الفرديّة هي في الوقت ذاته ذاتٌ حلميّةٌ تتسلّح بالحبّ والسّموّ والاعتزاز يريدها الشّاعر لأبناء أمّته كي يتجاوزوا محنتَها ومعوّقات تطوّرها، وقد جاء حزنُه واغترابُه إدراكاً منه لعدم الاستجابة إلى صوته.

ولهذا سيتداخل الهمُّ الذّاتيُّ بالهمّ الوطنيّ والقوميّ في شعر محمّد عارف قسّوم، وقد لاحظنا من قبل أنّ حزنَ الشّاعر وإنْ كان حزناً فرديّاً لكنّه كان نابعاً من هَمٍّ جماعيٍّ. وكيف له ألّا يكون حزيناً ووطنُه مقطُّعٌ أشلاءً، وحكّامُه جلاوزةُ محتلّون ومحتالون، وشعبُه ظامئٌ والماءُ من تحته سلسال؟ وهذا ما قرّره في نصّ (مهلاً أبا خالد) الّذي كتبه في رثاء الشّاعر العراقيّ عبد الرّزّاق عبد الواحد:

ماذا تُؤمّـــــلُ بعــــد اليـوم؟ وا أســــــفا     

فموطني اليوم أشـــــــــــلاءٌ وأوصــــالُ

وموطني اليــــــوم حُكّـــــــــــامٌ جلاوزةٌ     

وموطني اليوم مُحتـَـــــــلٌّ ومُحتــــــــالُ

وموطني اليوم موتُ الشّـعبِ مِنْ ظَمَـــأٍ   

والماءُ مِنْ تحته عَــــذْبٌ وسَـــــلْسَـــالُ

ونلاحظ أنّ هذا الألمَ نابعٌ من المكوّن الهويّاتيّ الوطنيّ للشاعر، من خلال ياء المتكلّم في (موطني)، والوطنُ هنا يشمل البلاد العربيّةَ كافّة من خلال قوله (موطني اليوم حكّامٌ جلاوزةٌ)..

ومع أنّه يطغى على هويّته المكوّنُ القوميُّ العربيُّ إلّا أنّ وطنَه الأمَّ سوريا حاضرٌ في أكثرَ من نصّ، حيث يعلن حبَّه وافتتانَه بها، وأجمل النّصوص الّتي كتبها في هذا الموضوع تلك التي كُتبت في المهجر، حيث يتمازجُ الذّاتيُّ بالوطنيّ، وتُمحى الحدود الفاصلة بينهما، فهناك في الغربة الّتي أُقصِيَ إليها حيث يكون الإنسانُ (مُحْتَضراً بلا جدوى على الطّرقات.. تنكره عيونُ العابرين، هناك حيث ينتعل الإنسان الجبين)، يكون الوطن حاضراً في كلّ تفصيلٍ من تفاصيلِ ألمِ المهجر، ولهذا يصرخ منادياً ذلك الوطن:

 يا أنتَ يا مَنْ ليس تَبْرَحُنِي تُرَى؛ 

ما زلتَ تذكرُني؟

وهل ما زلتَ ترعى ذمّةً للغائبينْ؟

يا فتنةً للناظرينْ

يا لذّةً للشاربينْ

يا كلَّ ما في جنّةِ الفردوسِ مِنْ وَرْدٍ، ومِنْ وِرْدٍ مَعِيْنْ

يا أنتَ يا وطني الّذي..

حتّى الحجارةُ فيكَ ينبضُ قلبُها كالياسمينْ

وإذا كان الأب والأمّ اسمين أساسيّين في كلّ هويّة، وبفقدهما يكون اليتمُ واختلال الهويّة، فالشاعر يرى يُتمَه بفقده الشّام، ويحلم في مهجره أن يُشتَلَ رُفاتُه في ترابها فيقول في نصّ (علّلاني):

و يا مَـنْ لم يزالا ظِـــلَّ روحــي 

بِذِكْــــرِ الشّـــــــامِ ظَلَّا علّـلاني

وإنْ هَبّ الشّــــذا سَحَرَاً إليهــا  

خُذاني  لا عَدِمْتُكمـا  خُـــــذاني

وقولا لم يزلْ طفــلاً رضيعـــــاً

تَجَـرّعَ يُتْمَـــهُ قَبْـــــــــلَ الأوانِ

فإنْ أنا متُّ لا تَنَيَا، اشـــــتُلاني  

 جِوَارَ الياســـــمينِ قَضِيْبَ بَانِ

ومعروفٌ أنّ أزماتِ الأمم وتردّي أوضاعها ينعكس بشكل سلبيّ على هويّة أبنائها الّذين يشعرون بالمهانة والدّونيّة، وقد يلجأ البعض إلى البحث عن هويّة بديلة، وهذا ما نشهده اليوم في ظلّ واقعٍ متردٍّ دفع بعضاً من المثقّفين إلى البحث عن هويّةٍ فينيقيّةٍ أو كنعانيّةٍ أو آشوريةٍ ليعلنوا براءتَهم من الهويّة العربيّة أو الإسلاميّة، ولكنّ للشاعر القسّوم مذهباً آخرَ، فهو يعلن إيمانه بسوريّته وبأبناء وطنه السّوريّين، ويراهن على أنّهم الّذين سينتصرون في النّهاية، كما أنّه يُخرِج من دائرتهم كلَّ من رضي الذّلّ والهوان فهو غريب وافد على الهويّة السّوريّة فيقول:

بروحي أفتديكَ سَــــــــــلِيلَ مجدٍ 

يُشَـــارُ لِمَجْـــــدِ روحِــكَ بالبَنَانِ

بروحي أيّهـا السّــــــوريُّ دعني

تُســــــابقُني لِلُقْيَــــاكَ الثّـــواني

طليقــاً لم تــزل حُرّاً جَمُــوحَــــاً 

أبيّ النّفــــسِ تكفــــــرُ بالعِنــانِ

أُراهنُني عليكَ نظيرَ نفســــــــي 

وأَحملنُي على فَرَسَـــــــيْ رِهانِ

وأقســـمُ ليس مَنْ قد هـــان منّا 

ولا مَـنْ كـان ذا قلــبٍ جبــــــانِ

وهذا التّباهي والافتخار لا يعني أنّ الشّاعر لا يعي أبعادَ أزمة أمّته، بل يمتلك رؤياه الخاصّة لماهيّتها، ويدرك أسبابَ وطرق الخلاص منها.

ففي توصيف تلك الأزمة يستلُّ قلماً جريئاً ليشرح مكامنَ الدّاء غيرَ عابئٍ بحرّاسه، سواء أسلطةً سياسيّةً كانوا أم دينيّةً أم اجتماعيّة، فيلخّص حال أمّته وما آلت إليه بجملة واحدة (نحن قشٌّ ولاتَ حينَ حصادِ) في نصّ (لا تسلني من نحن):

 نحـن قَــشٌّ وَلَاْتَ حِيــنَ حَصَـــــــادِ
 ورمـــــــــادٌ على حُطَـــامِ رمَـــــــادِ

نحن لا شيء.. غُرْبَـــــةٌ وضَيَـــــاعٌ
وشِــــــــراعٌ يَسيــرُ مِنْ غير هــــادِ

وكذلك في نصّ (مهلاً أبا خالد):

ونحن من نحن؟ أمـــــواجٌ وأهــوالُ 

ونحن من نحن؟ أصفـــــادٌ وأغــلالُ

ونحن من نحن؟ إبـــــــدالٌ إعــــلالٌ

ويقول مخاطباً محمّد الماغوط في نصّ (لأجل سلميةٍ ولأجل وجهك) ليشرح من خلاله حال الأمّة أيضاً:

هي أمّةٌ كادتْ تموتُ..

يُكــادُ لايُلْقى بها  لولا الّذين استُشهدوا.. لولاكَ..  حَيْ

كم من ألوفٍ هاهناكَ.. وهاهنالكَ..

عندما تحتاجُهـــــا لا تَلْقَ شَــــــيْ

حَتّامَ لا نجمٌ يضيءُ ولا وميضْ؟!

كلٌّ يســــــــــــــــــيرُ إلى صعودٍ..

بَيـْـدَ نحـــــــــــــنُ إلى حضيـــضْ

حَتّـــــــام يبقـــــــى وجهُهــــــــــا

كجناحهـــــــا الدّامي مَهيــــــــضْ

ومن خلال المقتطفات السّابقة جميعِها لا يخفى إلحاحُ الشّاعر على المكوّن الهويّاتيّ في الضّمير (نحن)، فهو يعلن انتماءه وعدمَ تخلّيه عن أمّة ما عاد منها سوى رماد على رماد وغربة تؤدّي إلى ضياع دون رائد او قائد أو هاد.

ولن يكتفي بتوصيف الحال الخارجيّ الّذي آلت إليه الأمّة، بل يتغلغل نحو المكوّنات النّفسيّة الّتي عشّشت في نفوسها، والدّمار الدّاخليّ الّذي حلّ بها، وهي السّادرة في وهمها وتباهيها الفارغ بأجداد ليس من حقّها الانتماءُ إليهم:

عُمْرُنا الوَهْـــــمُ.. كـــلَّ يـــــومٍ جديـــدٌ                           

عن حكـــــايا مجهولــــــــةِ الإســـــنادِ

خُلِـقَ الصِّــدقُ.. نحن عِشْـــــــنَا بـوادٍ                           

لا نبـــــالي بـــــه  وعـاش بِــــــــــوَادِ

خَفِّفِ الوَطْءَ.. لم نكــن أهــــلَ شـــأنٍ                            

ذاتَ يـــــــومٍ فلا تَقُـــــــلْ: أجـــــدادي

وقد يتبادر إلى الذّهن أنّ الشّاعر في قوله (لم نكن أهلَ شأنٍ) ينكر ما كان للأجداد من حضارةٍ اعترف بها العدوُّ قبل الصّديق، ولكن لو عدنا إلى الضّمير (نحن) لرأينا أنّه يتشظّى إلى اثنين، كما تتشظّى ذات الشّاعر بين (نحن) الماضي العريق والأجداد و(نحن) الحاضر المتردّي الّتي جاءت بـ (نحن قشٌّ ولات حين حصاد)، فنحن أهل الحاضر هذا لا يحقّ لنا أن نفخر بأولئك الأجداد، لأنّنا لم نصنع مجداً لأنفسنا كما صنعوا لأنفسهم، ولذا حَرَّمَ على أبناء (نحن الحاضر) التّباهي ونهاهم عنه في قوله (لا تقل أجدادي)، وهذا واضح أيضاً من قوله (نحن قشّ ولات حين حصاد) فهذا التّركيبُ فيه ذمٌّ للحاضر ومدحٌ للماضي؛ لأنّ هذا القشّ كان سنابلَ خيّرةً آتت أكلها واستحصدت على يد الأجداد، ولكن نحن من ضيّع الحصاد، ولم نجن من سنبلها شيئاً.  

ولا يكتفي الشّاعر بتوصيف الحال خارجيّاً وداخليّاً بل يضع قلمَه على الأسباب الّتي أدّت بنا هذه الحال، وهي أنّنا أمّة تقتل أعلامَها من مبدعين ومفكّرين ومخلّصين، إضافة إلى النّفاق الّذي تأصّل فينا، ممّا أوصلنا إلى قعر تخلّفنا، في الوقت الّذي بلغ فيه الآخرون ذروة التّقدّم، وأوّلُ من يُحّمِّلُه مسؤوليّةَ هذا هو الأمّة الّتي رضيت الذّلّ، ثمّ السّاسة الّذين يقودونها نحو الهاوية لا نحو مستقبلها:

وأيُّ مســــــــتقبلٍ يا أُمَّـــــةً أَمَــــــةً  

يســـوسُها اليوم نصّـــــابٌ ودجّـــالُ

وفي هذا البيت نلمح متّهمين وتُهمتين: أوّلُهما أمّةٌ متّهمةٌ لأنّها رضيت أن تكون أمّةً عبدةً مستذلّةً، والثّاني ساستُها المتناوبون على حكمها من نصّاب إلى دجّال.

وبحثاً عن أسباب التّردّي هذا نقرأ سبب ما جعل الأمم الأخرى تفوقنا؛ فنحن أمّةٌ تقتل مبدعيها ومفكّريها:

بَلَغَ النّــاسُ ذُروةَ الطُّـــــــهْرِ حَقّــــــــاً                              

 وبلغنا في العُهْــــــرِ قَعْـــــــــرَ الوادي

أمّـــــةٌ نحــن كلّمــــــا لاح نجـــــــــــمٌ                             

أطفأَتْــــهُ، أو لاحَ وَرْيُ زِنَـــــــــــــــادِ

قومُ سُـــــــوءٍ.. منافقـــــون جميعـــــاً                            

 فاغْسِــــلِ الكَـــــفَّ أيّهذا الحــــــــادي

وثمّة سبب آخر يراه الشّاعر هو التّناحر والاختلاف بين أشلاء الأمّة، وبهذا تحوّلت إلى قطيعِ خرافٍ يقوده من شاء إلى حيث يشاء، ففي نصّ (لبيك يا ذات الوفاء) يقول:

(ذبيـــــانُ) باتت ألفَ ذبيـــــــانٍ، وإنْ

تَسَــــــلـِي فألفـا (نائـــلٍ) و(إســــافِ)

والجـــزءُ أجــــــــزاءٌ إذا عاينتِــــــــهِ

والحلــــــــفُ منقســـــــــمٌ إلى أحـلافِ

ما هَـــــمَّ أنّـــــا قـد ذُبِحنــا مَــــــــــرّةً

لكـنْ؛ بأنْ صـــرنا قطيـــــــعَ خـــرافِ

 وإضافة إلى التّناحر والظّلم وتحكّم الطّغاة هناك ما هو أهمّ في تلك الأسباب؛ وهو تقديس الماضي الّذي كان معوّقاً أساسيّاً يشلّ حركة الحاضر والمستقبل:

نســــاءٌ وأطفـــالٌ وأشـــلاءُ أُمّــــةٍ   

ومسـتقبلٌ يقضي على غَـدِه الأمسُ

ودوّامَــةٌ للظّلـمِ رَهْـــــــنُ حُدودِهـا   

بلادٌ عليهــا أطبق الجِــنُّ والإنْــسُ

وما زالت الأعـرابُ فوضى غوايـةٍ    

وذبيــانُ ما زالــتْ تقاتلُــها عَبْـسُ

ومن خلال هذا التّحليل المشرّحِ للواقع يتبادر على ذهن القارئ أنّ الشّاعرَ متشائمٌ إلى درجة أنّه يائسٌ من أيّ طريق للخلاص، لكنّه في نصّ (مهلا أبا خالد) يلمح إلى وجود أمل، لكنّه أملٌ مشروطٌ بالخلاص من كلّ الأسباب الّتي رأيناها في المقتطفات السّابقة، والّتي تُلخّص في التّخلّص من أصنام الحكّام الّتي تُعْبَدُ بأمرٍ من رجال الدّين المزيّفين الّذين يجب أن يُبالَ على عمائمهم، وذلك حين تهبّ الجماهير مزلزلةً كلّ جهل؛ سواء كان من فهمٍ جاهلٍ خاطئٍ للتاريخِ أو الحاضر فيقول:

مهلاً أبا خـالدٍ إنْ كان من أَمَــــــــلٍ 

 فَيَوم تُهـــــدمُ آبــــــادٌ وأطـــــــلالُ

ويوم ينهـضُ هذا الجيـــــلُ منتفضاً  

فلا يظــــلُّ بكلّ الكـــــــــون تمثــالُ

يزلزلون قــــلاعَ الجهلِ شــــــامخةً 

 كأنّني بهمُ في السّــــــــاح زلـــزالُ

ويَنْهَـــــدُون فلا والله مـا وجـــــدوا  

عمائــــمَ الزّيفِ إلّا فوقهــــا بالـــوا

ونخلص إلى أنّ الشّاعر بعد تحليله لواقع الأمّة خارجيّاً وداخليّاً وبحثٍ في الأسباب لم يكتف بالتوصيف بل طرح رؤيا للخلاص والعودة بهذا المكوّن الهويّاتي إلى أصله العريق.

البعد الإنسانيّ:

لا شكّ أنّ النّزوع إلى عالم الحبّ واتّخاذه وسيلةً وغايةً إلى بناء العالم سيؤدّي إلى نزعة إنسانيّة تسم هويّة الشّاعر، فجميع الشّواهد الّتي ذكرناها في الحبّ تنتمي إلى الأدب الإنسانيّ المترفّع عن كلّ انتماءٍ قبليٍّ أو وطنيٍّ أو قوميٍّ، بل هو ينتمي إلى الإنسان أيّا كان مذهبه أو انتماؤه.  فالكون بجميع ما فيه وطنُ الشّاعر يتأّلم لألمه ويفرح لفرحه فيقول في نصّ (حسبي بأنّي واحد في الأنام):

لو كلُّهــمْ نامـــــوا مُحـالٌ أنـامْ        

والكـونُ فيهِ ظفرُ طفــلٍ يُضامْ

ما همّني وحــدي وهم كثـــرةٌ   

 فالمنهلُ الصّعبُ قليلُ الزّحـامْ

ويقترب الخطّ الإنسانيّ عند الشّاعر ليتقاطع مع شخص السّيّد المسيح بشكل غير مباشر، حين يعلن رغبته في العذاب، بل والقتل فداءً للأبرياء، وذلك في نصّ (صليل الآه):

ماضٍ فإن شـاهدتني أمضي لحتفي طائعاً

فلأجل أطفئ شـهوة للقتل عندهم إذا تبدو

ولأجل اشغلهم بنفسي عن جميع الأبرياء

لأجل شمسِ الوجد تلفح ما تكدس من ظلال الأمنياتِ..

فيشرق الوجدُ

وفي نصّ (نشيد التّحدّي) يخاطب الطّغاةَ في العالم، وليس في وطنه، ليقرّر أنّهم ضدّ الإنسانية، وهم خاسرون في حربهم مهما تفنّنوا في أساليب إجرامهم.. وأنّ الإنسان في النّهاية سينتصر.. فيقول:

لن تهزموا الشّـــــــــعورْ..

لن تهزموا الوجــــــــــدانْ

تَفَنَّنُوا في الظُّلم والغرورْ..

وقَطِّعوا الأغصــــــــــــانْ

بالّرغم منكمْ سوف تبقى الأرضُ والجذورْ..

ويصمدُ الإنســــــــــــــانْ..

ويصمد الإنســــــــــــــانْ..

فالبشرُ في معجم الشّاعر كلُّهم إخوةٌ، وعليهم أن يألموا لآلام إخوتهم، وهذا ما بدأ به بنفسه حين يقرّر:

أَمَرُّ شيْءٍ على الإنْسَـــــــانِ رؤيتُهُ  

أخَـــاً لَهُ عِنْدَهُ قد ضَاعتِ القِيَـــــــمُ

وحين يتحدّث عن تجربة المنفى لا يحدّد انتماءً لذلك الغريب، ولا يتحدّث عن نفسه وعذاباته الخاصّة، بل يعمّمها لتشمل آلام الإنسانيّة قاطبةً، فيقول:

ما أتعس الإنسان مُحْتَضَرَاً بلا جدوى على الطّرقاتِ،

تُنْكره عُيونُ العابرينْ!

ما أقبح الإنسان يَنْتَعِلُ الجَبِيْنْ!

يا أنتَ يا مَنْ ليس تَبْرَحُنِي تُرَى؛ 

ما زلتَ تذكرُني؟

وكما يتداخل البعد الذّاتيّ متمثّلاً في الحبّ مع البعد الإنسانيّ، فإنّهما ينبعان من معينٍ واحدٍ هو البعدُ الدّينيّ، الّذي يشكّل بدوره مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات هويّة الشّاعر.

البعد الدّينيّ:

ويتميّز بأنّه ذو ملامح خاصّة به، فهو بعيدٌ عن التّعصّب والإقصاء وإلغاء الآخر، قائمٌ على المحبّة والتّسامح، وهي الأسس الّتي نادى بها الدّين الإسلاميّ والأديان السّمحة الأخرى، وهذا ما يؤكّده في نصّ (بانت سعاد):

وَمَـــــا عَلَيَّ إذا ما الحـبُّ مِنْ شِــــيَمِي  

دِيْنِي هُوَ الحُـــبُّ قُرْآنٌ وإنجيــــــــــــلُ

وأحمــــــــــدٌ ويســــــــوعٌ والكليمُ مَعَاً  

وكـلُّ مَــنْ جـــاءه بالوحـي جِبْرِيـــــــلُ

وفي نصّ (نرجوك وحدك) نقرأ تضرّعاً لله الواحد الأحد الّذي لا يُرجى غيره لخلاص الأمّة مما آلت إليه:

يا أنتَ..

 ليس سواكَ ندعو

يا مَنْ لبَوْحِ الرّوحِ رَجْعُ

يا مَنْ لكلّ التاركين هوىً بِوادٍ غير ذي زَرْعٍ هوىً خِصبٌ وزَرْعُ

والمُعْوزين إلى حنانِ الأمّ ضَرْعُ

كما أنّ شخصيّة النّبيّ محمّد (ص) حاضرة في أكثر من نصّ حضوراً مختلفاً عما عهدناه في كثير من المدائح النّبويّة، حيث يطرح الشّاعر هنا الشّخصيّة المحمديّة نموذجاً للخلاص من التّردّي الّذي آلت إليه حال الأمّة كما في نصّ (لبهاء كاسك):

يا سيدي امتدّت صحارى التّيه ليـس سوى بوجهِكَ في السُّرَى نجتازُها

دعني أئزّ مَلُوعَ نارٍ كنتــــــــها        فَلَرُبّ يُصقَلُ لوعــــــــــــةً أزّازُها

كما أنّه يرى في تلك الشّخصيّة خلاصاً من حالة الاغتراب الفرديّ الّذي أشرنا إلى ملامحه في البعد الذّاتيّ لهويّة الشّاعر، فهو الخلاص حين تتشعّب الرّؤى وتختلط الدّروب، كما في قوله:

يا مبتغــاي إذا تشـــــعّبتِ الرّؤى        

يا وجهتي الأولى الّتـي أنحــازُها

يا أنت يامَـنْ للقلوب شــــــبابُها..     

 الأبهى ويا مَنْ إِنْ وَهَتْ عكّازُها

أنقذتَهَـــا مِنْ مســـتفزِّ غوايـــــةٍ       

 حتّى ليســــقط دونك استفزازُها

ختاماً:

إنّ مكوّناتِ الهويّة عند الشّاعر محمّد عارف قسّوم بنيت على خمسة أبعاد؛ أوّلُها البعدُ الذّاتيُّ المتّسمُ بالحبّ والتّسامي والتّرفّع عن الدّونيّات، إضافة إلى الألم والحزن والاغتراب، وبُعدٌ يتداخل فيه الهمُّ الوطنيُّ بالقوميّ، يشرح فيه حالَ أمّته باحثاً في أسباب الدّاء، طارحاً رؤياه للخلاص، وبُعدٌ إنسانيٌّ يرتقي فيه من الهمّ الفرديِّ إلى همّ الإنسان في كلّ بقاع الأرض، وأخيراً بعدٌ دينيٌّ يتّكئ عليه الشّاعر لأنّه الرّكن الأصلُ في بنيته الفكريّة، ويرى فيه وسيلةً للخلاص من خلال استحضار الماضي الإسلاميّ المشرق، وخاصّة الشّخصيّة المحمديّة، لتكون مثالاً يحتذى للخروج من تيه الأمّة.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المكوّناتِ الهوياتيّة لم تكن منفصلة  في القصائد، بل جاءت متداخلةً متمازجةً، حيث يتداخل الهمُّ الذّاتيُّ بالوطنيِّ والقوميِّ حتّى الإنسانيّ.

ورؤيته الخلاص: تأتي من الاعتماد على الماضي المشرق، بعد أن تحذف منه كلّ ترّهاته وأكاذيبه، إضافة إلى وعي الحاضر وأسباب بلائه المتمثّل في الرّعيّة قبل الرّاعي.

وأخيراً أقول: لقد صدق الشّاعر وعدَ عنوانِه، وعرَّفَنا ماذا أراد حين بادل بصوت الوجع صوت الموجع، فبذلك كان الوجع الّذي في داخل الشّاعر سيفاً موجعا للمتلقّي وهو يقدّم صليلَ آهه وآه الأمّة وآه الإنسان.

وبذلك يكون قد أضاف الى الشّعر ديواناً يستحقّ أن يكون في الرّفوف العليا من مكتبة الشّعر العربيّ والإنسانيّ.

مبارك له ولنا وللشعر

زياد الأحمد – ناقدٌ سوريّ

 

  • ألقيت بتاريخ 31/ 1/ 2019 في حفل توقيع الشّاعر محمّد عارف قسّوم لديوانه “صليل الآه”

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

“أنشودة وطن” جديد الشاعر السوري محمد عارف قسوم..

بقلم ‌نمير الصالح تحت عنوان “أنشودة وطن” نشر الشاعر السوري محمد عارف قسوم على قناة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *