الرئيسية / شارع الثّقافة / العتبات النّصّيّة في مجموعة “صليل الآه” لـ محمّد عارف قسّوم

العتبات النّصّيّة في مجموعة “صليل الآه” لـ محمّد عارف قسّوم

صدر حديثاً للشاعر محمّد عارف قسّوم مجموعةٌ شعريّةٌ جديدةٌ بعنوان “صليل الآه” عن مؤسّسة world press، وجاءت المجموعة في مائة واثنتين وتسعين صفحة من القطع المتوسّط.

وتعريفاً بهذه المجموعة سأعتمد استقراءَ العتباتِ النّصّيّةِ بدءاً من الغلافِ الأوّلِ والعنوانِ الرّئيسِ ثمّ الإهداءِ والعناوينِ الفرعيّةِ لكلّ نصٍّ، وأخيراً لوحة الغلاف الأخير.

واخترتُ هذه العتبات لِمَا لها من أهمّيّةٍ تكمن في كونها علاماتٍ دلاليةً تُشرِعُ أبوابَ النّصِّ أمام المتلقي، وتشحنُه بالدفعة الزّاخرةِ للولوج إلى أعماقِ ومضامين النّصوصِ الإحدى والخمسين الّتي تضمّنتها تلك المجموعة.

فالغلافُ هو العتبةُ الأولى الّتي يُفترض أنْ تثيرَ في نفسِ القارئِ التّشويقَ والحماسَ للاطّلاع على مضمون الكتاب؛ لأنّه الفضاءُ الأوّلُ الّذي تتمظهر فيه الملامحُ البارزة والقسماتُ والسّماتُ للعملِ الكامنِ وراءه، فهو باعثٌ أوّليٌّ للإقبالِ أو الاعتراض، وبالتالي هو الباعثُ الأوّلُ للكشف.

ويمكن أن نسمّي الغلافَ الوجهَ الأوّلَ لهويّة النّصّ، فهو يتضمّن العنوانَ، ونوعَ العمل، واسمَ المؤلّف، والنّاشرَ إضافةً على لوحة الغلاف.

 فالعنوانُ بناءً على بنية تركيبِه وعناصرِه المعجميّةِ والدّلاليّةِ يمكن أن يفضي إلى تجنيس النّصّ، وإلى تحديد شكلِه ودلالتِه، وترجع هذه الأهمّيّة إلى وضعيّته الخاصّة بالمقارنة مع العناصر الأخرى، أقصد طوبوغرافيا العنوان: شكل الحروف (غليظة، رقيقة)، مكان كتابتها، لونها، أو الصّور المصاحبة له.

ولا ننسى أنّ العنوانَ بشكلٍ خاصٍّ والغلافَ بشكل عامّ يتّخذ وجوهاً متعدّدة شأنه شأن الوجه البشريّ، فيأتي مشرقا، موحياً، جميلاً، عنيفاً، وقد يكون صادقاً فيما سبق، وقد يكون كاذباً؛ لذلك فهو ليس بناءً لغويّاً مجرّداً، وإنّما كيان حيّ، له العديد من السّمات الرّمزيّة، والشّاعريّة والدّلاليّة الّتي تنبض بالحياة.

وإذا استقرأنا الفضاءِ البصريَّ الأوّلَ لهذه المجموعة وهو لوحةُ الغلافِ نرى أنّ بؤرةَ الرّؤيا في اللّوحةِ تبدأ من الأسفل، حيث رُسِمَتْ أسلاكٌ شائكةٌ من النّوع الّذي نراه على الحدود فاصلاً بين الدّول، وهي الأسلاكُ ذاتُها الّتي تحتجز المُغتربَ والمُهجَّر، وتحول دون عودته إلى وطنه، وهذه الأسلاكُ الّتي يجب أن تكون ثابتةً تظهر في اللّوحةِ متطايرةً متشظيّةً؛ لتأخذ شكلَ طيور شائكةٍ مشوّهةٍ رُسِمَتْ بطريقةٍ سرياليّةٍ، وهي في لونها أقربُ إلى الغربانِ أو الخفافيش، ويظهر أسفلَ اللّوحة خطٌّ تزيينيٌّ مزخرفٌ، وكأنّ واضعَ الأسلاكِ أراد منه تجميلَ قبحِ تلك الأسلاكِ؛ لكنّها بقيت مهيمنةً على الرّؤية حتّى كاد ذاك الخطّ التّجميليّ لا يظهر أمام قبحِ حضورِها الطّاغي،  وفي الأفق البعيد من اللّوحة يكتمل تحوّلُها؛ لتكون طيوراً حقيقيّةَ الشّكلِ تحلّقُ نحو الأعالي، وبهذا التّحوّلِ توحي اللّوحةُ بتحوّلِ القيودِ الّتي رمز لها بالأسلاك الشّائكة الّتي تحجز حرّيّة المرتمين خلفها إلى شكلٍ من أشكال الحرّيّة، وهي الطّيورُ الّتي رُسِمَت في الأعلى بالطريقة الكلاسيكيّة الّتي توحي بحياتها.

وتتوضّح رمزيّةُ هذا التّحوّل أيضاً في ألوانِ الغلافِ المتدرّجة من الأسود وما فيه من ظلامٍ إلى الأصفر وما فيه من تصحّرٍ، ولكن يمازجه أخضرٌ خفيٌّ يوحي بالأمل كلّما ارتفعنا إلى الأعلى، وليتحوّل إلى بياض في أفقها العلويّ.

وباختصار تقول اللّوحةُ: إنّ أرضَ الواقعِ مغيّبةٌ في السّواد والتّصحّر، مكبّلةٌ بقيودِ العبوديّة والتّجزئةِ والاغتراب، رغم محاولات تزيينها الّتي يغيّبُها سوادُ هذا الواقع، ولكنّها ستتحوّل إلى فضاءات حرّةٍ لا متناهية الآفاق.

وقريباً من القسم السّفليّ المجاور للأسلاكِ الشّائكة وسواد واصفرار اللّون نرى اسمَ الشّاعر الثّلاثيّ، وكأنّه بهذا يعلن موقعَه من هذا الواقع، فهو ملتصقٌ بجزئه السّوداويّ، معايش لكلّ إيحاءاته.

وإضافة إلى ذكرِ اسمِه الصّريحِ نرى اسمَ أبيه، وهذا لا يخلو من لفتةِ وفاءٍ للأصولِ الّتي أراد أن يمنحها وجوداً واعترافاً ضمنيّاً بفضلها في وجود مجموعته الشّعريّة.

بينما في الثّلث الأعلى من لوحة الغلاف كُتِبَ عنوانُ المجموعة وكلمةُ (شعر) الّتي تحدّد نوعَ العملِ بخطٍّ يكاد يتمازج مع شكلِ الأسلاكِ الشّائكةِ الآخذةِ في التّحوّل، وليكون فاصلاً بين نوعي هذه الطّيور؛ فنلاحظ أنّ الطّيورَ الّتي تحت العنوان هي الّتي رُسِمَت بطريقةٍ تنتمي إلى المدرسةِ التّشكيليّةِ السّرياليّة، بينما ما فوقها كانت طيورٌ رُسِمَتْ بالمقاييس الفنّيّةِ الكلاسيكيّةِ الّتي تمنحها شكلَ الطّيورِ الحيّةِ المحلقةِ بأجنحتها، وكأنّ هذا العنوانَ هو خطُّ التّحوّلِ لها من كائناتٍ ممسوخةٍ مشوّهةٍ إلى كائناتٍ حيّة. وإذا دقّقنا النّظرَ في كلمة (الآه) نرى أنّ إشارةَ المدِّ أخذت شكلَ إحدى تلك الطّيورِ المتحوّلة، وكأنّها وُلِدَت من رحمِ تلك الآه.

ونلاحظ أنّ اسمَ الشّاعرِ والعنوانَ الرّئيسَ وكلمةَ شعر رُسِمَتْ كلّها بخطٍّ فنّيٍّ لا ينتمي إلى أيّ نوعٍ من الخطوطِ العربيّةِ التّقليديّة، وكأنّ الكاتبَ أراد بهذا الخروجِ إيصالَ رسالةِ خروجِ المجموعة على الرّتابة التّقليديّة. ويؤكّد هذا أكثر من نصٍّ من نصوصِ المجموعةِ يدعو فيه الشّاعرُ إلى الخروج على المألوف، والتّمرّدِ عليه، ورفضِه؛ حتّى إنّه يخترق في نصّ (صليل الآه) قواعدَ النّحو ليجعل من حرفِ الجرّ (ربّ) وحرفِ التّحقيق (قد) فاعلاً مرفوعاً في قوله:

ولئنْ رأيتِ بـ (قد) و(رُبَّ) الروحَ عالقةً

فقـد تأتي ببعـــض الوعـــــــــــــد (رُبَّ)

ورُبَّ ما قطعتــهُ تُنْجِـــزُ بعضَــــــهُ (قَدُّ)

ومن خلال استقراءِ العنوان، وتحليلِ ما يثيره من رؤية تخلّقت في رحم النّصوص، ورغم أنّه مقتطعٌ من إحداها؛ لكنّه يصلح أن يعنونها جميعاً؛ فإنّنا نرى من بنيته النّحويّة أنّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ يستنتجه القارئ دون عناء وهو (هذا الكتاب صليلُ الآه).. وهنا نلاحظ أنّه أخبر عن الكتاب؛ وهو ماديٌّ محسوسٌ تحت بصرنا وبين أيدينا بخبرٍ معنويٍّ هو (صليل الآه)، وبهذا يخبرنا أنّ هذا الكتابَ يتضمّن تحويلاً من المعنويِّ اللّامحسوس إلى محسوسٍ مجسّدٍ بين دفّتي هذا الكتاب.

ومن جهة أخرى: من تَأمُّلِ معاني تركيبِ العنوانِ نجد أنّ (الآه) هي صوتُ وَجَعٍ يخرج من أعماقِ المُتوجِّع مستعيناً بزفرةٍ طويلةٍ مهموزةِ البدايةِ متلاشيةِ النّهاية؛ مع همسِ حرفِ الهاء، وهو من حروفِ الجوفِ الّتي لا تعترضها الشّفاه؛ بل تنطلق بعيداً عنها نحو الهواء الطّلقِ بعد أن كانت سجينةَ الأعماق، مثْلها مِثلُ الطّيور الّتي رسمت في اللّوحة.

وإذا كانت (الآهُ) هي صوتُ وجعِ المتوجِّع فـ (الصّليلُ) عكسُها، فهو صوتُ السّيفِ المُوجِع، وبنسبة الصّليل إلى الآه في التّركيب الإضافيّ قلبَ الشّاعرُ المعاني، حيث جعل للوجع صوتَ المُوجِع، وبمعنى آخر كان العنوانُ وعداً ووعيداً بتحويل صوتِ الوجعِ (الآه) إلى موجِعٍ هو السّيف، وكأنّه يقول: هذه المجموعة تتضمّن نصوصاً نابعةً من أعماق الوجع، لكنّها لن تكون شفاءً لكم بل موجِعةً لعلّها توقظكم وترشدكم إلى مكامن هذا الوجع. وباختصار لنقل إنّه يَعِدُ بقول القائل: (داوني بالتي كانت هي الدّاء).

والعتبة الثّانية: تتمثّل في الإهداء الّذي يحدّد المتلقي الّذي يريده الشّاعر ليحمِّلَه هذا الوجعَ، والمتعارفُ عليه أن يكون الإهداءُ عرفاناً وشكراً من المؤلّف لمن لهم يدٌ في العمل المقدّم، لكنّ الشّاعرَ في إهدائه يحدّد الشّريحةَ الّتي يريدها لتلقّي ديوانه، ويهديهم إيّاه، وكأنّه يدين لها بشكر ما على موقف ما، ومن نصّ الإهداء نكتشف هذا الموقف الّذي استحقّوا عليه الشّكر والإهداء، فقد نصّ على:

(إلى كلّ مَنْ لم يزلْ واحداً وجهُهُ في زحام المرايا)

وفيها مرتكزان دلاليّان يحيلان إلى خاصّيّةِ المُهدَى إليهم، وهما (المرايا) و(واحداً)، ومعروفٌ أنّ للمرايا رمزيةً قديمةً تَضرِبُ بجذورها في الميراث الإنسانيّ؛ حيث كانت ومازالت لها إيحاءاتُها ودلالاتُها الفلسفيّةُ والجماليّةُ في الأسطورة والتّاريخ والأدب والفنّ وكتابات الفلاسفة والمتصوّفة.

والمرآةُ هنا سطحٌ عاكسٌ لصورةِ الواقعِ المعاشِ، وبإسنادها إلى (الزّحام) نستخلص كثرتَها وتنوّعَها وتعدّدَها، ومنه كثرةُ الانعكاسات الّتي تصوّرها لهذا الواقع، ويتوضّح هذا التّعدّد إذا أسقطنا عليه الواقع السّوريَّ المتزامنَ مع صدور المجموعة، وهو واقعٌ مضطربٌ تتقاذفه عشراتُ التّيّاراتِ الفكريّةِ والسّياسيّةِ والدّوليّة؛ حتّى أنّه أصبح من الصّعب استشراف أفق واضح لخلاصه، ولكلّ من هذه التّيارات مراياها الّتي تتبع فكرَها وأيديولوجيّتَها، والواقفُ أمامها هو أمام خيارين؛ إمّا أن يتلوّن وفقاً لصورتها وأيديولوجيّتها، أو أن يحافظ على صورته الحقيقيّة، ومن هنا جاء الإهداءُ إلى الطّرف الثّاني الّذي بقي (واحداً) في زحام المرايا ولم يتلوّن بتلوّناتها، بل ولم تتعدّد وجوهُه النّفاقيّةُ في أكثر من مرآةٍ منها، ولتأكيد الشّاعر كلمة (واحداً) قدّمها على كلمة (الوجه)، وموقعُها بعده، وذلك لإبراز أهمّيّةِ الصّفةِ الّتي تكمن فيها؛ وبذلك يكون إهداءُ المجموعةِ إلى المتمسّكين بملامحهم الحقيقيّة، وهويّتهم الأصل، مبتعدين عن التّعدديّة النّفاقيّة في زحامِ الصّورِ الوهميّةِ المرآويّةِ الّتي تفرضها انعكاساتُ الواقعِ عليهم.

وقد تضمّنت المجموعةُ الكثيرَ من أوصافِ أولئكَ الّذين كانوا فاعلين لا منفعلين، وكانوا عاكسين ضوءهم على ظلماتِ الواقعِ لا متلقّين لانعكاس ظلامِه عليهم، ومن ذلك قوله مخاطباً السّوريَّ في نصّ (يا صامتاً في حزنه):

يا واهباً زهرَ البهاء بهــاءَه   

ومزركشاً وجهَ البهاءِ بِطَلِّهِ

يا مَنْ إذا أقمارُ قوّتهم وَهَتْ   

يرفـو ثقوبَ بَرِيقِهِنَّ بِنَصْلِهِ

وإذا انتقلنا إلى عنوانات النّصوصِ الّتي تضمّنتها المجموعةُ سنجد ما يؤكّد وعدَ العتباتِ السّابقة، وأوّلها العنوان الّذي ذكّرنا أنّه جَمَعَ اسمَ صوتين (الآه والصّليل)، فجاءت أغلبُ العنوانات صيغاً صوتيّةً ندائيّةً (يا أنت يا وطني ـ يا صامتاً في حسنه ـ يا ظاعنين بقلبي – يا طفلتي ـ لله يا قلب ـ يا سائق الأظعان ـ لبّيكِ يا ذات البهاء ـ مهلاً أبا خالد)

ويلاحظ أنّها جميعاً اعتمدت أسلوبَ الحذفِ المضمونيّ والنّحويّ؛ أي ذُكر المنادى وحُذفت جملةُ جوابه، وبذلك كانت النّصوص هي جواب نداء لعنواناتها. وكما أنّ المنادى لم يكن صريحاً في في كلّ العنوانات كما في (يا صامتاً في حسنه ولبّيكِ يا ذات البهاء)، وفي هذا الغموض إثارةٌ وتشويقٌ للقارئ لدخول النّصّ ومعرفة المنادى ومضمون جملة النّداء المتمثّلة في النّصّ كلّه.

كما نلاحظ طغيانَ العناوين الّتي تعتمد شبهَ الجملة دون ذكر متعلّقها، وهذا الحذف أيضاً أداة إغرائيّة، وعتبة تدفع لدخول النّصّ كما في (لبهاء كأسِك – حين تشدّ الرِّحال – إليها – وبيني وبينك – لله يا قلب – بالحب نحيا – من بحره الحبر – لأجلِ سلمية)

وأمّا العنوانات الّتي اعتمدت الجملةَ الاسميّةَ فقد جاءت محذوفةَ الخبر أو المبتدأ للغاية ذاتها، كما في (صليل الآه – خوابي النّور – مملكة الحب – بلقيس – حسناء وادي النيل – أنا والقدس – معراج القلوب – نشيد التحدي – شجرة – سُكْر – شكر – شاعر- وجه بلقيس)، وقلّما نجد عنواناً من جملة اسميّة مكتملة تنبئ بمضمون النّصّ كما في (ملح الحياة الحبّ – سلام على عينيك – هي طفلتي عيني….)  

ولو تأمّلنا إحدى هذه العناوين، وليكن (يا أنت يا وطني)، نجد نداءين في التّركيب؛ الأوّلُ المنادى فيه (أنت) والثّاني (الوطن)، وكأنّه أراد من المنادى (أنت) مقابلاً لـ (أنا) الّتي شرّدتها الغربة، وغيّبتها، فضاعت وحَلَّ محلَّهَا الضّميرُ (أنت) الّذي هو معادل لأنا الشّاعر؛ لأنّه عاد ليؤكّده بقوله: (يا وطني)، وليوحّد بين ياء المتكلّم وكلمة الوطن، وما جاء في النّصّ يؤكّد هذا التّوحّدَ أكثر في قوله (يا أنت يامن ليس يبرحني)، فالوطنُ كامنٌ في أناه متوحّدٌ فيها، فـ (أنت) أمست هنا معادلاً لقوله (يا أنا). 

كما طغت على مضامين القصائد الصّيغُ الإنشائيّةُ الطّلبيّة، من نداءٍ وأمرٍ ونهيٍ واستفهامٍ، وكلُّها أساليب خطابيّةٌ تعتمد النّبرةَ الصّوتيّةَ المرتفعةَ، كما في نصّ (لبهاء كأسك)، حيث جاء النّداءُ عشرَ مرّات في نصٍّ لا يتجاوز العشرين بيتاً، وكذلك نصّ (لا تسلني من نحن) حيث جمع كلَّ أساليبِ الإنشاءِ الطّلبيِّ من نهيٍ واستفهامٍ وأمرٍ ونداءٍ، ومنها قوله:

لا تســـــلني من نحن؟ كلُّ ســــــؤالٍ

بعـــد هذا رصاصـــــــــةٌ في فــؤادي

أيّ خيـــرٍ قد يُرْتجَــى من ضحـــــايا

 فَوّضَتْ أمــرَها إلى الجـــــــــــــلّادِ؟

فابـكِ يا قلــبُ لا الوجــــوهُ وجـــوهُ..

الأهــــــلِ فيـهـا ولا البـــــــلادُ بلادي

واذرفِ الدَّمْعَ، لَهْـفَ روحي عليهــمْ

واعتصمْ إنْ جفــــوا بحبـــــلِ الـودادِ

لا تقــــــلْ قد قَسَـــــوتَ.. يغفـرُ حبيّ

لي وحرصـي أنْ يرجعــوا للرّشــــاد

وكذلك في نصّ (حسناء وادي النيل)، والذي مطلعه:

حســــناء ترمقني بطرفٍ أدعج     

وتقولُ ويكَ تعالَ وانهجْ منهجي

نقرأ التّراكيب الإنشائية المصوّتة الآتية: بالله هل خبرٌ.. أم من حديثٍ؟ .. هل نفحةٌ مصريّةٌ.. قم حيّ مصر.. وابعث بوادي النّيل.. واسقِ العطاش.. يمّمْ فؤادَك.. وأنِخْ ركابَك.. يا شعب مصر.. جهّز خيولَك.. واسأل أبا الهول العظيم وقل له حتّام يبقى.. وَحِّدْ خيارَكَ لا تذرْ متغطرساً واقطف رؤوس الخانعين.. واجعل من الأعداء شغلاً.. ماذا دهى أرض الكنانة.. يا ربّ فرِّجْ.. رفقاً بقلب العاشق.. أَخرِج محبَّك.. وارحم فؤادي..

وفي نصّ (ليس شعراً مالم نكن) والّذي يبدؤه بثلاثة أفعال أمر:

هاتِها واغمري ضلوعيَ سُكْرَا      

واســـــقِنِيها حَدَّ الثّمالةِ جَهـرا

ثمّ تبدأ الأبيات بالتراكيب الآتية: وامزجيها.. وأطِلِّي كالبدر.. أعلنيها.. وَارْمِ.. لا تُبطئيه.. وتهادي يا غزالاً.. كيف يحيا إلّا بلقياك قلبٌ..  ويختم بقوله:

يا لخوفي الأعوام تمضي سراعاً      

وتصير الأحلامُ أشـــــــلاءَ ذكرى

وكذلك نصوص (كثير كل هذا) و(لبيك يا ذات الوفاء) و(نرجوك وحدك) و(سلام على عينيك) فقد توزّعت أغلب تراكيبها ما بين الأمر وبين النّداء.

ومن كلّ الشّواهد السّابقة نرى أنّ هذه الجملَ الإنشائيّةَ الصّائتةَ تَنبَّأ بها العنوانُ الّذي جمع اسمَ صوتين معاً، وجديرٌ بالذكر أنّ الخطابيّةَ المتولّدةَ من الجمل الإنشائيّة لم تؤثّر على النّاحية الشّاعريّة وتوهّجها؛ بل كانت أداةً إيصاليّةً تطلّبتها طبيعةُ المرحلةِ ومضموناتُ النّصوص.

 كما تتأكّد الرّؤيةُ الّتي نذهب إليها أيضاً في علاقة لوحةِ الغلافِ بمضامين النّصوصِ في نصّ (مهلاً أبا خالد) في قوله:

مهلاً أبا خالد فالشــــوقُ  قتّالُ       

واللّيل كالخيلِ تَحنانٌ وتَصهالُ

ماذا تؤمِّـــلُ والأبواب  مقفَلــةٌ      

 وحيث يمّمتَ  أبوابٌ  وأقفـالُ

ماذا تؤمّل بعد اليـــوم وا أسفا      

فموطني اليوم أشلاءٌ وأوصالٌ

ماذا تؤمّل هل حيٌّ بهم  أحـــدٌ      

وهل تؤمّل  ممّن  مات  آمال؟

وهنا نستطيع أن نقرأ النّصَّ السّفليَّ من لوحةِ الغلافِ حيث يتغلغل بنا صوتُ الشّاعر صليلاً موجِعاً يَصلُّ في النّبرة الاستفهاميّة الموشّاة بانكساراتِ الخيبةِ النّابعةِ من مرارةِ الواقعِ الّذي يعيشه ثمّ يتابع قائلاً:

مهلاً أبا خالـد إنْ كـان من أمـــــــــلٍ      

 فيـــوم تُهْـــدَمُ آبــــــادٌ وأطــــــــلالُ

ويـــوم ينهض هذا الجيـل منتـــفضاً      

 فلا يظــلّ بكـــلّ الكـــــون تمثــــــالُ

وينهـــدون  فلا  والله مــا  وجـــدوا      

عمائــمَ الزّيف إلّا فوقهــــــــا بالــوا

أولاء من نسلِ هذا الضّوء يا وطني     

 حقّاً، وللضــوء إنجــــابٌ وإنســالُ

وليس مَــنْ عاش كالخفّاش مختبئاً

مثل الّذي فوق هامِ الشّمسِ يختـالُ

فالشاعر مؤمنٌ بحتميّة الخلاص من سوداويّة الواقع، لكنّه خلاصٌ مشروطٌ بثورةٍ مزلزلةٍ يقوم بها الجيل الجديد، تنسف كلَّ القيود، بدءاً من رموزٍ قياديّةٍ مستبدّةٍ بوجودها السّرمديّ، وانتهاءً بعاداتٍ ومعتقداتٍ وعقائد باليةٍ، وعندها سَيُنسَف الواقعُ، ويتمّ التّحوّل من حالة الخفافيشِ إلى حالةِ مَن هم يحلّقون فوق هام الشّمس.

وبالعودة إلى الغلاف نستطيع أن نفهم تشظّيَ الأسلاكِ الشّائكة، وتحوّلَ أشكال الطّيور السّوداء السّرياليّة الّتي نفرت منها، والطّيور الحيّة المائلة الى الخضرة الّتي تعتلي العنوان (صليل الآه) وكأنها انبثقت منه.

الغلاف الأخير: هو امتدادٌ للغلاف الأوّل، حيث تلمح في أعلاه الطّيورَ الّتي تخلّت عن كلّ الظّلال السّوداء الّتي كانت تحملها، وهي تتابع التّحليقَ نحو الأعالي.. وتشكّل مساحات بيضاء من الياسمين الدّمشقيّ فضاءَ اللّوحة الّتي يشوب بياضَها بقعٌ لونيّةٌ آخذةٌ بالاضمحلال، ومنها نشتمّ رائحةَ الحنين إلى أجواء الوطن؛ بل وحضوره في المساحةِ الأوسع من فضاءِ اللّوحةِ.

وفي النّصف السّفليّ تحلّ محلَّ اسمِ الشّاعر صورتُه واقفاً، مرتدياً السّوادَ، وقد رمى بمعطف سفرٍ على ذارعه، وقد حلّ مكانَ الأسلاكِ الشائكةِ حاجزٌ على جسرٍ خشبيِّ الأرضيّةِ؛ لعبور المشاة، وقد تداخل ظهره مع شجيرة ياسمين تناثرت زهورُها الّتي شكّلت سماءَ اللّوحة. وفي كلّ هذه التّفاصيل نقرأ غربةً وتشرّداً وبعداً عن الوطن الغائب الحاضر، إضافة إلى جسرٍ فيه بارقةُ أملٍ لعبور ضيقِ الغربةِ نحو فضاءاتِ الوطنِ المترعةِ بالياسمين..

وقد كُتِبَ على الغلاف مقطعٌ من نصّ (يا أنت يا وطني) نقتبس منه:

ما أتعس الإنسان مُحتضراً بلا جدوى على الطّرقات..

تُنْكِرُهً عيونُ العابرينْ!

ما أقبح الإنسان يَنْتَعِلُ الجبينْ!

يا أنتَ يا من ليس تبرحني تُرَى:

ما زلتَ تذكرني؟

وهل ما زلتَ ترعى ذمّةً للغائبينْ

يا أنتَ يا وطني الّذي..

حتّى الحجارة فيك ينبض قلبُها كالياسمينْ!

جاءت الكلماتُ لتقولَ ما الّذي يعتملُ في داخل صورةِ الشّاعر المبعدِ عن وطنه، وقد أدرك بحسّه الشّاعريّ الإنسانيّ معاناةَ كلِّ مغتربٍ وليس اغترابه فقط، فقال (ما أتعس الإنسان) وليس (ما أتعسني) ويختصر كلَّ آلام الغربة بأنّه إنسانٌ مُحتضَر على الطّرقات ينتعل جبينَه ويعاني قطيعةً ونكراناً من كلّ ما حوله، حتّى عيون الآخرين، لكنّ الوطن لم يبرحه، وكلُّ خوفه أنْ يكون ذاك الوطن قد نسيه لتقادم العهد به فيسأله (ما زلتَ تذكرني؟ وهل ما زلتَ ترعى ذمة للغائبين؟). ولعلّه أوجعُ سؤالٍ في المجموعة كلّها.

وبهذا تأتي لوحةُ الغلاف الأخير لتضيف عتبةً دلاليّةً أخرى على إشكاليّةِ الغربةِ المادّيّةِ والاغتراب الرّوحيّ والنّفسي الّذي يعيشه الشّاعر.

وخلاصة القول: إنّ العتبات النّصّيّةَ الّتي مهّدت للدخول إلى هذه المجموعة كانت قادرةً على توليدِ رغباتٍ وانفعالاتٍ تدفع بالمتلقّي إلى اقتحامِ النّصِّ برؤيةٍ مسبقةٍ، كما كانت ذات أبعاد دلاليّةٍ، بدءاً من العنوانِ وتركيبِه الشّاعريِّ وشكلِ حروفِه ولوحتِه، ممّا أدّى إلى تجنيسِ النّصِّ وتحديدِ جزءٍ هامٍّ من هويّته، والإيحاءٍ بمعانيه وموضوعاتِه قبل دخوله، إضافة  إلى الإهداء وتخصيصِه وما أدّته عنواناتُ النّصوصِ من الإيحاءِ بالكثير من الدّلالاتِ والمضامين، والمعاني الرّئيسة والفرعيّة الّتي أرادها الشّاعرُ في مجموعته، تلك المجموعة الّتي تستحقّ من خلال ما قدّمته من  فِكْرٍ وما اختزنته من شِعْرٍ ومشاعر موجعة أن تتصدّر مكاناً بارزاً في مكتبة الشّعرِ العربيِّ والإنسانيّ.

   زياد الأحمد – ناقد سوريّ

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

“أنشودة وطن” جديد الشاعر السوري محمد عارف قسوم..

بقلم ‌نمير الصالح تحت عنوان “أنشودة وطن” نشر الشاعر السوري محمد عارف قسوم على قناة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *