الرئيسية / للحوار / قراءة في قانون الأحوال الشخصيّة السوريّ الجديد

قراءة في قانون الأحوال الشخصيّة السوريّ الجديد

#للحوار:

يؤلمني أن أقول إنّ التعديلات الأخيرة جاءت دون المأمول، ولا تحقّق تطوّراً جوهريّاً في الأسرة والمجتمع، ولا تحقّق طموح المرأة في بناء أسرة مستقرّة، ولا طموحها في تحصيل نصيب عادل من الميراث، على الرغم من أنّ هذه المطالبَ هي في جوهر مقاصد الشريعة وفي رأس شعارات الدولة……….
ستركّز هذه الدراسةُ على 5 موادّ من أصل 71 أعتقد أنّها الأكثر جدلاً، فيما أعتبر التعديلات الأخرى أقرب إلى الشكليّة ودفع تنازع القوانين منها إلى المطالب الجوهريّة للأسرة السوريّة.
في المادّة 14 الخاصّة بحقّ الاشتراط في العقد عجز القانون عن التصريح بحقّ المرأة في بناء الأسرة المستقرّة واشتراطها منع الرجل من التعدّد المزاجيّ، وعاد يكرّر صيغته القديمة:                                                                     
إذا قيّد العقد بشرطٍ ينافي نظامَه الشرعيَّ ومقاصدَه فالشرطُ باطلٌ والعقدُ صحيح.
وبالطبع فإنّ هذه العبارةَ لها تفسيرٌ واحدٌ في الهيئات القضائيّة السوريّة وهي اشتراطُ منعِ التعدّد، باعتباره اعتداء على النظام الشرعيّ للزواج، حيث حقّ الرجل أنْ يعدّد وفق مزاجه دون حسيب أو رقيب، وهكذا فإنّ المرأة لو اشترطت منعه من التعدّد في في عقد نكاحها فإنّه شرطُ لغوٍ وعبثٍ، والقانون صريح تماماً في حماية حقّ الرجل بالغدر بالمرأة تحت عبارة صريحة: العقد صحيح والشرط باطل!
لست أدري كيف أمكن للمشرِّع السوريّ أن يقبل بهذا الغدر ويقبل خداع المرأة في أقدس علاقاتها رعاية لمصلحة ذكوريّة موهومة، ويخلّ بأقدس قيم الإسلام وأبرّها وهي الوفاء بالعقود وفق ما نصّ عليه القرآن الكريم: يا أيّها الذين أمنوا أوفوا بالعقود، وقوله أيضاً وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً.
بل إنّ النبيّ الكريم أعلن بصراحة وجوب احترام الشروط المرتبطة بعقد النكاح، فقال: إنّ أحقّ ما وفّيتم به من الشروك ما استحللتم به الفروج، وهذا نصٌّ واضحٌ في المسألة.
والعجيب أنّ فقهاء الحنابلة الذين نصمهم عادةً بالتشدّد والتعصّب كانوا أكثر الناس وعياً لهذه الحقيقة، وقد قال الإمام ابن القيّم: واختلف الفقهاء في شرط الإقامة في بلد الزوجة وشرطها أن يتزوّج عليها فأوجب أحمد وغيره الوفاء به، وذهب الحنابلة إلى أنّ العقد صحيح والشرط صحيح وواجب الوفاء وعليه الفتوى.
فما معنى إصرار المشرّع السوريّ على مجاملة التعصّب والإعراض عن فتاوى مجيدة ذات احترام كبير في الأمّة يمكنها أن تحقّق للمرأة ما تصبو إليه، وهو بناء أسرة هادئة مستقرّة مستدامة، لا تهدّدها نزوات الزوج الطائش، وكان بالإمكان البناء على هذه الفتوى المعتبرة والمؤيّدة بالنصوص الشرعيّة الوثيقة بدل التحوّل إلى تشريع الغدر بالمرأة واعتبار شروطها باطلة وغير معتبرة.
وفي هذا السياق نورد أيضاً ما رواه الإمام البخاريّ عن المسوّر بن مخرمة أنّ رسول الله غضب أشدّ الغضب حين أراد عليّ الزواجَ على فاطمة، واعتبر ذلك نكثاً لشرط ضمنيّ في العقد، وذكّره بوضوح بشروطه التي أخذها على أصهاره، وذكر صهراً له من بني عبد شمس وهو عثمان بن عفّان وذكر صهره أبا العاص بن الربيع، وأكّدت الروايات في البخاريّ بما يقطع الشكّ أنّ شرط عدم الزواج على الفتاة كان معتبراً في أصل العقد ويجب الوفاء به.
وأورد استطراداً رأيي أيضاً في أنّ رسول الله نفسه لم يعدّد أبداً على زوجته وأمّ عياله، وعاش معها معظم حياته، ولم يجرحها بكلمة أو يسوءها بمطمع ، أمّا التعدّد الذي وقع بعد وفاتها فلم يكن اعتداء على أيّ امرأة مستقرّة، ولم يكن غدراً بأيّ منهن، وكان مفهوماً تماماً للنساء المخطوبات اللاتي كنّ جميعاً إلّا عائشة ثيّبات أو أرامل، ولم يكن زواجهنّ بالرسول مشروع أسرة مستقلّة منفصلة.

وفي المادّة 21 قدّم المشرّع تطويراً خجولاً حين منح الفتاة التي تجبر على الزواج حقّ الاعتراض عليه، إذا زوج الوليّ الفتاة بغير إذنها ثمّ علمت بذلك كان العقد موقوفاً على إجازتها صراحة، ومع أنّ هذه المادّة تعتبر خطوة في منع فكرة زواج الإجبار الذي يمارسه الأولياء على الفتاة القاصر، ولكنّه غير كاف على الإطلاق، وكان على القانون أن يُصرِّح بوضوح ومباشرة على منع العقد على الفتاة بغير علمها، ومنع تزويج الصغيرات أصلاً، وأنّ أيّ تزويج لا يعتبر إرادة الفتاة صراحة فهو عبث واستبداد وظلم، ولهذا الموقف بالطبع شواهده الكثيرة من الكتاب والسنّة، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: لا تنكح الأيّم حتّى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، ولا أدري سبب الإصرار على تزويج القاصرات مع أنّ عشرات الفقهاء تاريخيّاً وخاصّة من فقهاء الحنفيّة كتبوا بالتفصيل في رفض زواج القاصرات ومنع الأولياء من العقد عليهنّ بدون رضاهنّ.
ومن العجيب أنّ امرأة تعرّضت لذلك في عهد النبوّة فاشتكت للنبيّ الكريم أنّ أباها زوّجها وهي كارهة، فجعل الأمر إليها، ووقفت أمام الناس وقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكنّني أردت أن تعلم النساء أنْ ليس للآباء من الأمر من شيء!
ويجب القول أنّ ما قدّمته هذه المادّة لا يحقّق إنصافاً للمرأة لأنّ حقّ رفضها لما قرّره أبوها ليس سهلاً على الإطلاق، وكذلك فإنّها حتّى لو رفضت صراحة ما أجراه أبوها أو جدّها فإنّ ذلك لا يجعل العقد باطلاً؛ وإنّما فاسداً، وتترتّب عليها آثار الزواج الفاسد التي تشكّل على الفتاة في تجربتها الأولى رهقاً قاسياً ومريراً.
وهكذا يستمرّ تراجع المشرّع أمام رغبات المتشدّدين دون بذل جهد وافٍ في الدفاع عن حقوق المرأة وإنصافها، على الرغم من وجود البدائل المناسبة في الفقه الإسلاميّ نفسه، الذي يعتبره الدستور مصدراً أساسيّاً من مصادر التشريع.

ولكنّ الجانب الأكثر أسفاً هو صمت القانون التامّ في أيّ تعديل يحقّق حقّ المرأة في كدّها وسعايتها وما بذلته في الحياة الأسريّة، ولم يجرؤ القانون أن يقترب خطوة واحدة من الاعتراف بحقوق المرأة العاملة المؤكّدة التي تستلزم تعديلاً في قوانين الإرث والطلاق، حيث تغيّر واقع المرأة اليوم، وباتت المرأة في عائلات كثيرة هي المنفق والمعيل، أو الشريك على أقلّ تقدير، وكم من بيوت بنيت بكدّ النساء وسعايتهنّ، ولكن لم تجنِ النساء من ذلك شيئاً!
قبل قرون نجح المشرّع العثمانيّ في تحقيق المساواة في قسمة الأراضي الأميريّة بين الرجال والنساء، وكان ذلك استحساناً حكيماً قائماً على أصول أبي حنيفة، ومع أنّ كثيراً من الفقهاء أنكروه واعترضوا عليه؛ ولكن مجلّة الأحكام العدليّة اعتبرته اجتهاداً صحيحاً تترتّب عليه آثاره الشرعيّة، ومع أنّه كان اجتهاداً مباشراً في النصّ؛ ولكن الفقهاء الحنفيّة استدلوا بالاستحسان، وقدّموا المبرّرات الشرعيّة لهذه المساواة تأسيساً على قيام المرأة بأعمال الزراعة وتقديراً لكدّها وسعايتها بما يلزم منه تعديل الحصص الإرثيّة وفق قانون القرآن الكريم: وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى.
الأمر نفسه نجح في تحقيقه فقهاء المالكيّة أيضاً في القرن التاسع، حيث قدّم ابن عرضون دراسة عميقة مدلّلة بالبراهين على حقّ المراة في ضمّ سعايتها وكدّها عند الطلاق والميراث، وذلك إنصافاً لجهدها المكافئ، وسمّي ذلك الحقّ حقّ الكدّ وحقّ السعاية وحقّ الجراية وحقّ الشقا وحقّ تمازولت بالتعبير الأمازيغيّ، ولا شكّ أنّ تعدّد الأسماء يشير الى اشتهار المسالة تأسيساً على مبدأ تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان، وهو الاجتهاد الذي أخذت ببعض تفاصيله المدوّنة المغربيّة لشؤون الأسرة عام 2004.
ولقد سبق إلى تطبيق هذه القاعدة الهامّة الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب الذي قضى في حادثة حبيبة بن زريق، وكانت امرأةً نسّاجةً طرّازةَ، وكان زوجها عمر بن الحارث يتّجر بنسيجها حتّى جمعا مالاً وفيراً، وحين توفّي زوجها أخذ بنوها مفاتيح الخزائن فشكت إلى عمر بن الخطّاب فقضى لها بنصف ما جناه الزوج من أصل المال ثمّ قضى لها فوق ذلك بنصيبها من الإرث.
بل إنّ القانون الحاليّ نجح في تحقيق تطوّر هامّ في أحكام الميراث عبر إقرار الوصيّة الواجبة، وهي تعديل مباشر في قواعد الإرث وأحكامه، قائم على اعتبارات العدالة والإنصاف للأيتام عند وفاة جدّهم.
والاجتهاد في قضايا الإرث قديم، ويمكن رصد عشرات المسائل منها مثلاً منح الأمّ ثلث الباقي بخلاف ظاهر النصّ الذي منحها الثلث، وكذلك مسائل الجدّ والإخوة التي جاءت كلّها في مواجهة ظاهر النصّ، ولكنها حقّقت مقاصده، وأقرّها الفقهاء خلال التاريخ.
في الواقع لم يجرؤ المشرّع في الاقتراب خطوة واحدة من شجاعة فقهاء الصحابة في تعديل أحكام الميراث، ولا من استحسان الفقهاء العثمانيّين في الأراضي الأميريّة ولا من شجاعة المالكيّة في تقرير الكدّ والسعاية، ولا حتّى من شجاعة القانون نفسه في تقرير الوصيّة الواجبة! وأعاد تدوير الأحكام الإرثيّة كما قرّرها قانون 1957 وكأنّه لم يطرأ أيّ تطوّر على واقع النساء خلال ستّين عاماً على الرغم من شعارات الأنظمة التقدميّة والاشتراكيّة.

ومع ذلك فمن الواجب أن نشير إلى بعض الإصلاحات الجيّدة في القانون ومنها:
مادّة 21: تعديل قيمة المهور وفق القوّة الشرائيّة للمبلغ المذكور في المهر، وهذا رفع حيفاً كبيراً عن النساء، حيث قوّمت المهور بالعملة السوريّة حين كان الدولار 5 ليرات في حين أنّه غدا اليوم 500 وكان القضاة يلتزمون بالمبلغ المذكور في العقد على الرغم من أنّه غدا رقماً دون أيّ قيمة، ونصّ المادّة: 
21 : عند استيفاء المهر كلّاً أو بعضاً تكون العبرة للقوة الشرائيّة للمهر وقت عقد الزواج على ألّا يتجاوز مهر المثل يوم الاستحقاق مالم يكن هناك شرط أو عرف خلاف ذلك.

مادّة 57: كذلك فإنّ المشرّع انتبه إلى وجوب حماية المرأة التي أبرأت زوجها من مهرها، ثم طلّقها تعسفيّاً، وهنا بات من الواجب منحها حقّ الرجوع عن ذلك الإبراء لأنّ سببه بكلّ تأكيد هو أمل المرأة بالاستقرار والثبات، ولكنّ الرجل خالف تلك الآمال ومارس التطليق العسفيّ:
57 – 2 يحقّ للزوجة أن تعود عن إبرائها وتستحقّ مهرها إذا طلّقها زوجها طلاقاً تعسفيّاَ.

مادّة 73: وكذلك فإنّ المادّة أوجبت احترام حقّ المرأة في العمل خارج الدار، وأمر الزوج بالإنفاق عليها حتّى ولو كان رافضاً لعملها، طالما أنّه اشترطت ذلك في العقد، ونصّ المادة:
73: إذا عملت خارج البيت دون إذن زوجها صراحة أو ضمناً مالم تكن قد اشترطت في عقد الزواج خلاف ذلك.

مادّة 78: وكذلك فإنّه أنصف المرأة التي تنفق على عيالها، دون توثيق إنفاقها، وحقّها في استرجاع ما أنفقته. وقد كان القانون القديم يمنحها حقّ الرجوع بأربعة أشهر فيما منحها القانون الجديد حقّ الرجوع بعامين اثنين، ونصّ المادّة:
78: لا يحكم بأكثر من نفقة سنتين سابقة للادعاء . (بدل أربعة أشهر)

مادّة 117: وكذلك فإنّ القانون خطا خطوة جيّدة في إنصاف المرأة حين فرض لها في الطلاق التعسفيّ نفقة ثلاث سنوات لأمثالها، وتجاوز عن الشرط الذي كان يطلبه في السابق وهو إثبات أنّه قد أصابها بالطلاق التعسفيّ ضرر وفاقة، فأعفاها القانون الجديد من ذلك وهي خطوة ضروريّة ومناسبة. 
117: إذا طلق الرجل زوجته بإرادته المنفردة دونما سبب معقول، ومن غير طلب منها استحقّت تعويضاً من مطلّقها لا يتجاوز نفقة ثلاث سنوات لأمثالها، فوق نفقة العدّة، وللقاضي أن يحكم به جملة أو مقسّطاً بحسب مقتضى الحال.

مادّة 257: كذلك فإنّه يسجّل للقانون الجديد أنّه حقّق التعديل الضروريّ فيما يتّصل بالوصية الواجبة، ومنحها لبنات الابن أيضاً بعد أن كانت تقتصر على أولاد الابن، وهذا ما أخذ به المشرّع المصريّ والإماراتيّ، وهو أقرب إلى العدالة، وهذا نصّ المادّة:
257: من توفّي وله أولاد ابن أو أولاد بنت وقد مات ذلك الابن أو البنت قبله أو معه وجب لأحفاده هؤلاء في ثلث تركته وصيّة بالمقدار والشرائط الآتية (ثلاثة شروط).

فهذه ستّة مسائل حقّق فيها القانون الجديد تطوّراً معقولا، وفيما سوى ذلك من الموادّ فهي رفع التباس أو توضيح موادّ أو تعديلات شكليّة وإجرائيّة.

وبعد…
أرجو أن أكون قد قدّمت في هذه القراءة السريعة قراءة واضحة للتطوّر التشريعيّ العاثر، في قانون الأحوال الشخصيّة، وإذا كانت المرأة السوريّة والأسرة السوريّة قد حظيت ببعض الفتات في هذه المرحلة، فإنّ المطلوب من النخب الفقهيّة والثقافيّة والمجتمعيّة بذل مزيد من الجهود للوصول إلى قانون عصريّ للأحوال الشخصيّة، ولا نشكّ أبداً أنّ هذه الإرادة التطويريّة ستجد ظهيراً قويّاً من الفقه الإسلاميّ الذي يعتبر ديواناً للعقل الإسلاميّ في فترة صعود حضاريّ، وذلك حين ننظر إلى هذا الفقه الكبير على أنّه منجم غنيّ وثريّ، وأن نتوقّف عن ترجيح الخطباء الانفعاليّين إلى ترجيح خبراء القانون والاجتماع وخاصّة أولئك الذين يجمعون معها معارف الشريعة الإسلاميّة والفقه الإسلاميّ.

محمّد حبش

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

جائحة كورونا اللّغويّة

ماريانّا ماسّـا – إيطاليا منذ أن اجتاح وباء الفيروس التّاجيّ الكوكب وغيّر إيقاع الحياة فيه، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *