الرئيسية / على ناصية قلب (نصوص وكتابات) / أزمة الخطاب الحداثيّ الإبداعيّ والنّقديّ

أزمة الخطاب الحداثيّ الإبداعيّ والنّقديّ

د. مصطفى عطيّة جمعة

لقد كانت أبرز مآخذ رافضي الحداثة الإبداعيّة على الخطاب الحداثيّ المصطلحات الغامضة كالطلاسم في الفكر والكلمة والأسماء والمصطلحات، فهي دفقات من إنسان حائر ضائع قلق، وكثير منها مشتقّ من الفلسفة والاجتماع، وهي ظاهرة أشير إليها كثيراً في نقد الحداثة وأدبها وفكرها، وتعود إلى أسباب كثيرة منها: البعد الفكريّ الفلسفيّ، وعدم القدرة على صياغة مصطلحات أدبيّة بمفاهيم ودلالات واضحة، والرّكون دائمًا إلى مصطلحات الفلسفة بكلّ غموضها أو حتّى بعدها عن الدّلالة الأدبيّة، حتّى أنّنا نجد أبعادًا ميتافيزيقيّة في المصطلحات والصّور والرّموز والأخيلة، والأنكى أنّ الحداثيّين العرب تلحّفوا بالصوفيّة ورموزهم الغامضة، ممّا أدّى إلى الغياب الدّلاليّ والموضوعيّ بهدف خلق تأثيرات شعوريّة غامضة، مع الإمعان في التّجريد.

وتصبح المشكلة أكبر عندما يصبح النّقد أصعب من الإبداع، بل إنّه يمثّل حجبًا وستائر كثيفة لا تعين القارئ على فهم النّصّ، بل تجعله يغوص في طلاسم لا يخرج منها بشيء، كما نجد في المآخذ الّتي ذكرها د.عدنان النّحويّ في نقده لـ “كمال بوديب” حول دراسته النّقديّة لشعر ابن الرّوميّ، حيث أضاع القارئ في شرح حركيّة النّصّ، وما فيها من بعد رأسيّ وآخر أفقيّ، دون تبيان المقصود بشكل كافٍ.

ويضرب الباحث عدنان النّحويّ أمثلة من نصوص بعض الجماعات الأدبيّة مثل المستقبليّة، الّتي أعلت التّجريد في الصّوت والكلمة، فقدمت نصوصًا غير منظومة ولا مفهومة، أساسها كلمات تعطي أصواتًا، كلّ كلمة في سطر.

ويعارض النّحويّ ما يفعله نقّاد الحداثة واحتفاءهم بأشعار الخمر وإغفالهم أشعار الأخلاق والحكمة والقيم.
كما أنّ غموض المصطلح وعدم تبيان دلالته، يؤدّي إلى خلط المفاهيم عن تلقّيه، فعبد الله الغذّامي مثلًا يتحدّث عن الانحراف الّذي يقوم به النّصّ الأدبيّ، ويتمرّد به على واقعه، دون أن يعرف ماهيّة الانحراف في الفكر الحداثيّ، وهو ليس انحرافًا أخلاقيًّا بأيّ حال، وإنّما يعني أن يأتي المبدع بالجديد الّذي يخالف ما درج عليه السّابقون، فينحرف عن مساراتهم التّقليديّة، وهو الّذي أحدث لبسًا لدى النّحويّ فيأخذ على الغذّامي هذا المأخذ، ويرى أنّه يجب أن يدعو إلى الاستقامة وشتّان بين المفهومين، وتلك من مشكلات تقديم النّظريّات الحداثيّة.

ويتحوّل الأمر أكثر في ملحوظة جوهريّة يأخذها النّحويّ على الحداثيّين، حيث يرصد التّعميم المخلّ الظّالم الّذي يمارسونه في كتاباتهم، وجعل الفرضيّات حقائق مسلّمة، ثمّ يسعون إلى تطبيقها على الإسلام والتّراث وهذا ظلم بيِّنٌ، فمن الخطأ نقل مفاهيم من ميادين معرفيّة إلى أخرى بشكل عشوائيّ، ثمّ تعميم رؤاها، والأدهى أن تصبح الفرضيّة حقيقة ومسلّمة تطبّق على ثوابت الدّين.

على الجانب الآخر فهناك مآخذ عديدة على رافضي الحداثة، منها أنّهم وضعوا مختلف المناهج الحداثيّة في سلّة واحدة، بمعنى أنّه وضع المذاهب الفكريّة والأدبيّة جنبًا إلى جنب مع مناهج تحليل النّصّ، فعدنان النّحويّ مثلًا ينظر إلى البنائيّة والتّفكيك والسّيميولوجيّة والتّصويريّة على أنّها أفكار، وهي في الحقيقة مناهج لدراسة النّصّ، أيّ نص، أمّا المذهبيّة الأدبيّة مثل السّيرياليّة والواقعيّة والبرناسيّة فهي توجّهات فكريّة وجماليّة في الكتابة الأدبيّة، وشتّان بين الرّؤيتين؛ فإنّ السّيميولوجيا مثلًا تساهم في إضاءة الكثير من الرّموز والإشارات والعلامات في النّصّ، والأمر نفسه مع البنائيّة، فهي منهج لدراسة بنية النّصّ من منظور لغويّ جماليّ، يقف عند وحدة النّصّ العضويّة، ويكشف الكثير عن البنى الجماليّة في النّصّ الإبداعيّ.

لذا، عندما تمّ تطبيق هذه المناهج على الأدب العربيّ فقد خرج الباحثون بنتائج كثيرة جيّدة، ورؤى عديدة كشفت المزيد من حجب النّصّ وأبانت عن الجديد من جماليّاته.

ولابدّ أن ننتبه إلى أنّ هذه المذاهب انتعشت بعض الوقت وسرعان ما خبت، وهي إن كانت تعبّر عن حيرة الإنسان، إلّا أنّها قدّمت جماليّات جديدة للفنّ والأدب؛ فالتكعيبيّة مثلا تعبّر عن رؤية جماليّة للأشياء تنظر لها من زاوية هندسيّة، أمّا الرّمزيّة فهي موجودة في القديم قبل الجديد، وكون أنّ هناك من نادى بها الآن فهذا لا يلغي وجودها السّابق، وبعبارة أخرى فإنّ هناك اتّجاهات جماليّة متوارثة في الأدب والفنّ العالميّ، تمّ الكشف عنها وعن خصائصها ثمّ فلسفتها في مدارس الحداثة.

ولا شكّ أنّ هذا رصيد يضاف للتجربة الإنسانيّة الأدبيّة مهما اختلفنا معها، فلا يمكن إنكار روائع سلفادور دالي في الفنّ التّشكيليّ مثلًا، ولا روائع جميس جويس في الرّواية، بالرغم من اختلافنا مع بعض مضامينها وأحداثها.

وربّما كان للنحويّ بعض العذر في رؤيته؛ لأنّه في تاريخ تأليفه للكتاب المذكور (في حقبة الثّمانينيّات)، لم تكن التّرجمات للكتب الغربيّة ولا دراساتها التّطبيقيّة على نحو ما نجد الآن من وضوح، وكثرة، وتعدّد، تعين الباحث والقارئ على السّواء في فهم ما غمض من هذه المناهج. أيضًا فإنّ هناك مذاهب أفادت الحياة الأدبيّة العربيّة، فلا يمكن إنكار أنّ الواقعيّة ساهمت في وجود مؤلّفات روائيّة وقصصيّة عظيمة، كانت بمثابة تسجيل للمجتمعات العربيّة في تطوّرها المختلف، على نحو ما نرى في أعمال نجيب محفوظ، عبد الرّحمن منيف، سهيل إدريس، وغيرهم.

أيضًا هناك تحفّظ بعض الشّيء على ربط النّحويّ الحياة الشّخصيّة للأدباء مع إنتاجهم الأدبيّ، فقد اتّهم الشّاعر الفرنسيّ المعروف شارل بودلير بأنّه نشأ يتيمًا مشرّدًا، وعاش حياة جنسيّة فاجرة، وأدمن المسكرات، والأمر نفسه نجده مع أرنست همنجواي (الّذي مات منتحراً) وتي. إس. إليوت، ومالارميه، وهذا حقيقيّ، ولا شكّ أنّه ينعكس على الأدب، ولكن بودلير أسهم كثيرًا في تطوير الشّعريّة المعاصرة، على مستوى الجماليّات والرّموز والرّؤى، وإن اختلفنا قطعاً مع بعض رؤاه. أمّا همنجواي فهو من أهمّ مبدعي الفنّ الرّوائيّ العالميّين، ولا يمكن لأيّ روائيّ أن يتجاهل أعماله، مثل “وداعًا أيّها السلاح”، و”العجوز والبحر”، أمّا إليوت فهو شاعر عظيم صاحب ديوان “الأرض اليباب” وناقد مهمّ له طروحات نقديّة مركزيّة، وهو لم يلغ الدّين، بل كان متمسّكًا بقيم المسيحيّة.

إنّنا إذا طبّقنا هذا المعيار على أدبنا العربيّ فإنّنا سنبتعد عن أشعار وشعراء كثيرين في الجاهليّة والإسلام عاشوا حياة بها تفسّخ أو خروج عن العقيدة الإسلاميّة، وعبّروا عن ذلك في أشعارهم، ولكن لديهم شعريّة عظيمة، من مثل امرئ القيس وأبي العلاء والمتنبّي، فنحن نتعامل بالإيجاب مع الجيّد، ولا نقف كثيرًا عند السّيّئ وإن علا فنّيًّا. فلنحتفِ بالجيّد المتميّز من شعرهم، ولنصرف النّظر عن الرّديء.

ونقول أيضًا إنّنا لا يمكن أن نطبّق رؤانا النّابعة من ثقافتنا الإسلاميّة العربيّة على الأدب الغربيّ، لأنّ كلّ أدب ينضح بأجواء مجتمعه وفلسفاته وتطلّعاته وهمومه، وإنّما علينا أن نبدع أدبًا، ونظريّات، وأطروحات مستقاة من ثقافتنا ومجتمعاتنا، ونقدّم نماذج أدبيّة راقية تجذب العالم إليها، وتعرّفه بذاتنا الثّقافيّة والحضاريّة؛ ليكون الأدب ناطقًا باسمنا، ولا يكون أدبًا مكتوبًا بلغتنا، ولكن يحمل فكر وتوجّهات غيرنا، وهذا ما نلمسه جليًّا الآن. وهذا لا ينفي وجود أدب عالي المستوى مكتوب وفق الأشكال الغربيّة في الرّواية والقصّة والمسرح، ولكن نظرتنا أكثر شموليّة نابعة من رؤية ثقافيّة حضاريّة شاملة.

وختامًا، علينا أن نجيب بشكل جدّيّ عن السّؤالين اللّذين طرحهما النّحويّ وهما: لماذا ظهرت الحداثة في واقعنا نحن اليوم؟ وأين بلغت الحداثة في واقعنا اليوم في ديار المسلمين؟

ولاشكّ أنّ الإجابة عن السّؤالين تحتاج إلى تأمّل عميق ودراسة طويلة، ولكنّ الأمر يتّصل في مجمله بحالة التّراجع الحضاريّ للمسلمين عامّة وتعرّضهم للاستلاب النّفسيّ أمام الحضارة الغربيّة، بجانب أنّ إنتاجهم المعرفيّ المعاصر هزيل بالقياس إلى المنتج المعرفيّ الغربيّ، فكلّما كان هناك ثراء في المعرفة، نبتت النّظريّات، وتطوّرت الأفكار، واتّسعت الرّؤى.

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

الجاحظ وكتبه.. قصّة قصيرة

 إبراهيم أحمد بعد أن انتشر في المدينة خبرُ سقوط الكتب على الجاحظ وملازمته الفراش، قلقنا عليه كثيراً، وجدتني مع خمسة من النّسّاخين والورّاقين نزوره عصراً، في بيته البسيط المبنيّ من الحجر والطّين في ضاحية من البصرة، قريباً من شطّ العرب. كان من حسن حظي أنّني استطعت أن أجلس بجانبه في بيته البسيط الّذي ليس فيه من أثاث سوى فرش بسيطة رثّة ممدودة على الأرض، ومنضدة خشبيّة حائلة اللّون عليها إبريق ماء، وكؤوس صغيرة من الفخّار! كان بثياب بيض فضفاضة،وعمامة بيضاء مذهّبة نظيفة،وقد بانت من تحتها شعيرات شائبة، أنارت وجهه الدّاكن الأقرب للسواد، كان قد قارب المائة عام، استهلك خلالها اثني عشر خليفة عباسيّاً، كلّهم ماتوا ونسوا،بينما بقي هو الكاتب المعلّى!  كلّ من معي كان يقول: ـ  حمداً لله على سلامتك. أحدهم قال: ـ هذه الكتب الجاحدة؛ سقطت عليك وأنت صانعها! ابتسم الجاحظ  قائلاً: ـ  لا، هذه الكتب الورقيّة سقطت عليّ، ولم تؤذني، ما سقط عليّ وآذني كتب أخرى! وسط دهشتنا جميعاً، قلتُ: ـ كيف؟ لم أفهم يا سيّدي! ـ الكتب الّتي في داخلي هي الّتي سقطت فوق رأسي! دهشت ،أكثر، بقيت أتطلّع إلى وجهه الّذي يقولون إنّه دميم؛ بينما أنا أراه من أكثر وجوه النّاس لطفاً وبشاشةً؛أريد منه أن يقول المزيد، فحديثه متعة للقلب حتّى لو كان حزيناً! رفع صوته ليسمع الآخرين معي: …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *