الرئيسية / شارع الثّقافة / فرانكشتاين في بغداد

فرانكشتاين في بغداد

 

رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداويّ/ دارالجمل، ط 1/ 2013

قراءة ونقد: زياد الأحمد

مَرَّةً أخرى تنطلق رواية فرانكشتاين في بغداد للكاتب العراقيّ أحمد سعداويّ نحو ميادين السّبق العالميّة، فبعد أن تصدّرت قائمةَ جائزة البوكر للرواية العربيّة عام 2014؛ وصلت اليوم إلى القائمة الطّويلة لجائزة مان بوكر الدّوليّة بالمملكة المتّحدة، الّتي اختارتها مع 12 رواية أخرى من أصل 108 رواياتٍ متقدّمةٍ للجائزة. وتضمّ القائمةُ المختارةُ أعمالاً لكتّاب من فرنسا وألمانية وإسبانيا والمجر والأرجنتين وكوريا الجنوبيّة والنّمسا وبولندا وتايوان.

وتحاولُ هذه الدّراسةُ إلقاءَ الضّوءِ على هذه الرّواية. 

هادي العتّاق تاجر عاديات (أشياء قديمة ومستعملة)، يسكن حيّ البتّاوين في بغداد، وتحديداً في بيتٍ متداعٍ عُرف بالخربة اليهوديّة، مُغرمٌ بـتأليفِ الأكاذيبِ والاستمتاع بسردها في مقهى عزيز المصريّ، والكذبة الكبرى الّتي لفّقها هي حكاية هذه الرّواية.

يزعم هادي أنّه قام بجمع أشلاء من ضحايا الانفجارات، ليشكل منها جثّةً جمعها هناك في قبو الخربة اليهوديّة، ومع اكتمال آخر قطعة منها، وهي الأنف، اختفت الجثّة!

كيف؟ حلّت فيها روح الحارس حسيب محمّد جعفر الّذي مات في تفجير فندق، وبُعثرت جثّتُه، وبقيت روحه تائهةً بغير جسد، وحين عثر على الجثّة المجمعّة حلّت فيها، وهكذا تحرّكت الجثّة (الشّسمة) كما سمّاها هادي العتّاق، ودخلت بيت جارته الآشوريّة أمّ دانيال (إيلشوا) فمنحتها اسم دانيال.

من هي إيلشوا؟ ومن هو دانيال؟ هي عجوز خرفة، هاجرت ابنتاها (ماتيلدا و هيلدا) مع زوجيهما إلى استراليا، ومات زوجها ( تيداروس)، أمّا ولدها دانيال فقد ذهب إلى الحرب (العراقية الإيرانية) منذ عشرين سنة و لم يرجع، وما تزال العجوز تنتظره رافضةً مغادرة بيتها إلى غيره رغم إلحاح ابنتيها، تقضي نهارها أمام صورة القدّيس مارجورج يستو سائلةً إيّاه أن يعيد إليها ولدها دانيال، غير مصدّقة خبر موته والتّابوت الفارغ إلّا من قطع ثيابه و كسرة من كيتاره، إذن هي وحيدة في ذلك البيت الكبير والمتداعي من الدّاخل رغم واجهته الّتي تبدو متماسكة قوية، والمطموع  به من قبل الدّلّال الجشع (فرج الدّلّال)، وحين لم تُجدِ معها كلّ الإغراءات، حتّى يئس منها، راح ينتظر موتها ليستولي على البيت، كما استولى على الكثير من البيوت الّتي هاجر سكّانها. كما كان هادي العتّاك طامعاً بأنتيكاتها النّفيسة…. بينما كان الجيران يعطفون عليها، ويؤمنون ببركتها، ومنهم أمّ سليم البيضة..

حين غادرت الجثّة بيت هادي (الخربة اليهوديّة) المجاور لبيت العجوز، ودخلت عليها، اعتقدت أنّه ولدها دانيال عائداً من الحرب، رغم ملامحه القبيحة وآثار خيوط الجراح على وجهه، ومنحته اسم دانيال، وأخبرت النّاس بعودته، لكنّ أحداً لم يره!

راحت الجثّة (الشّسمة) تتجوّل في شوارع بغداد منتقمة لكلّ عضو من أعضائها، وكلّ عضو يُنتقَم له يسقط، إلى أن دعت الحاجة إلى أعضاء جديدة قد تكون من أبرياء أو مجرمين، كما وجدت من يتبنّاها، ويرعى أعضاءها، ويوجّهها إلى الانتقام. وهكذا أصبحت كذبة العتّاك حقيقة تتحدّث كلّ بغداد عنها، وتطاردها الحكومة ودائرة المتابعة والتعقيب بقيادة العميد سرور ومنجّميه، الجميع يطارد المجرم فرانكشتاين في بغداد (نسبة إلى فيلم روبيرت دي نيرو السّينمائيّ ورواية ماري شللي).

و من أعطاه هذا الاسم؟ إنّه الصّحفيّ محمود السّواديّ، الشّاب الموهوب الهارب من مدينته العمارة خوفاً من انتقام مجرمٍ كتب عنه مقالةً صحفيّةً، هرب إلى بغداد رغم نصائح أصدقائه بأنّ بغداد لا تسكن.

تبنّاه رئيس تحرير مجلّة الحقيقة (علي باهر السّعيديّ)، وحين أدرك مواهبه سلّمه منصب تحرير المجلّة، فتحوّل من الفقر إلى حياة الرّفاهيّة، وانتقل من فندق (أبو أنمار) الى فندق فخم، وأخذ ينعم بالملذّات من خمر ونساء متى ما شاء!

وفي مقهى عزيز المصريّ سمع الصّحفيّ من هادي العتّاق (الكذّاب) حكاية الشّسمة، فأغرته الحكاية، وطلب منه دليلاً على أنّها تزوره، وليكن تسجيل صوتها، وفوجئ محمود بساعات صوتيّة مسجّلة بصوت الشّسمة: صوت هادئ وقور تشرح فيه مهمّتها في الانتقام للأبرياء، وتنفي عن نفسها صفة الإجرام، ومن هذا الصّوت الّذي يشبه صوت أبي سليم (الجار) ومن أكاذيب العتّاق ينسج محمود رواية فرانكشتاين في بغداد، ممّا أوقعه في تحقيقاتِ دائرةِ المتابعة والتّعقيب الّتي تطارد هذا المجرم.

ويجد محمود نفسه في العراء ثانيةً حيث يتّهم معلّمه السّعيديّ بسرقة ملايين الدّولارات، ويهرب إلى الأردنّ تاركاً محمود يبيع ساعته وهاتفه والكاميرا الدّيجيتال الّتي تحوي حكاية فرانكشتاين (وهذه باعها لمؤلّف روائيّ، ليحوّلها إلى رواية، وهو الّذي اكتشف تشابه صوت الشّسمة مع صوت أبي سليم، حين لقيه في مشفى الكنديّ بعد التّفجير الهائل الّذي وقع في البتّاوين إثر هجرة العجوز المباركة أمّ دانيال، حيث استطاعت ابنتها أخيراً إقناعها بالرحيل، وذلك بإرسال ولدها الّذي يشبه خاله دانيال كثيراً، وأقنعوها بأنّه دانيال، فباعت البيت لفرج الدّلّال والأثاث للعتّاق، ولكنّها أخذت البركة وأمن الحيّ معها، فجاء الانفجار ليدمّر ما تركت وراءها كإصابة أبي سليم وتشوّه العتّاق، فصار يشبه الشّسمة الّتي اختلقها (ويعلن تلفزيون الحكومة) أنّ المجرم تمّ إمساكه واسمه هادي العتّاق.

يعود محمود إلى بلدته وخاصّة بعد أن يئس من نوال الوزير (صاحبة معلّمه باهر سابقاً، وهي الّتي حذّرته منه) فقد كان يشتهيها ويتخيّلها مع كلّ امرأة ينالها، لكنّها لم تستجب لشهواته، بل كانت تريد منه أن يكتب لها سيناريو الفلم الّذي تحلم بإخراجه، بعد أن تخلّى عنها باهر السّعيديّ.

وباهر يفاجئ محمود برسالة إلكترونيّة يبرّئ فيها نفسَه ممّا اتّهم به، مدّعياً محاربته لوطنيّته المناهضة للاحتلال. فحوّل محمود الرّسالة إلى المؤلّف الّذي باعه الحكاية.

***

هذه هي خلاصة الحكاية الّتي بنى السّعداويّ روايته عليها، ولفهم هذه الرّواية الّتي يتوازى فيها الغرائبيّ مع الواقعيّ لابدّ من التّمهيد بأنّ فكر ما بعد الحداثة الّذي عمل على كسر اليقينيّات والثّوابت، وقدّم نصّاً روائيّاً يتبنّى نزعة مضادّة للواقعيّة المباشرة، هو الفكر المسيطر على فنّيّة العمل، فالكاتب هنا يجمع مابين تمثيل خرافيّ ووجود تاريخيّ، وفي هذا النّوع من الأدب على حدّ قول خالد علي ياس1 يفقد المتلقّي حسّ التّميّز وإدراك الاختلاف مابين الحقيقة والافتراض، بسبب الوهم الّذي كوّن نسخة مغايرة للأحداث، فسسيولوجيّة تلقّي هذا النّمط المعاصر تمكّنه من التّخلي عن وعيه الذّاتيّ المُحفّز للبحث عن الفرق بين الحقيقة والخرافة، ليجد نفسه مجبراً على الاعتراف أنّ الواقع لم يعد كما كان، فيطغى نمط من لامبالاة انتقاليّة خارقة لموثوقيّة السّرد يتمّ بها العبور من اليقينيّ إلى المفترض، وبما أنّ المتلقّي فقد التّميّز بين الحقيقيّ ونظائره المُتخيَّلة تغدو الرّواية تواصلاً لذاكرةٍ تكنولوجيّة سينمائيّة مُستبطِنة للافتراض، ولكن بوسائل كتابيّة بديلة، والواقع هنا يصنع خرافة، على غرار ما نراه في سينما الخيال العلميّ، والّتي أُخذ منها عنوان الرّواية فرانكشتاين، ويبرّر الرّوائيّ السّعداويّ هذه الغرائبيّة في حوار له مع جريدة المدى2 بقوله: العجائبيّة هنا ليست تلويناً أو تزويقاً، إنّما نافذة للاقتراب أكثر من الواقع العراقيّ، هذا الواقع الّذي يحفل بالعجائبيّ الدّينيّ والميتافيزيقيّ والشّعبيّ، ويتعامل معها كمفردات مُعاشة بشكل يوميّ، فخيال النّاس ضَخَّمَ صورةَ فرانكشتاين، وحوّله إلى وحش خارق، ونحن في واقع الحال نمارس هذا الأمر بشكل معتاد؛ نضخّم ونبالغ دائماً، ونتحرّك بتحريض من مخاوفنا ورغباتنا ومشاعرنا السّلبيّة، فالعجائبيّ والغرائبيّ موجود معنا، ينام ويأكل ويشرب، بالإضافة إلى الأحداث الّتي مررنا بها خلال العقود الماضية، والّتي حفلت بالعجائب والغرائب من الأحداث والقصص.

ويؤكّد الدّكتور فالح العمرانيّ3 أنّ هذه الرّواية شاهدة أدبيّة على واقع تخطّى حدود الواقع، ويشعّ العراق فيها على كافّة مستوياتها اللّغويّة ونمطية الشّخصيّات، ويمكن أن تنسب إلى الواقعيّة المتافيزيقيّة بقدرتها على الكشف عن مكامن الواقع كحالة مأساويّة تعمل ضدّ الإنسان وإرادته، وتتجاهل خياراته، وتجعله بيدقَ شطرنجٍ لا حول له ولا قوّة في مواجهة الإعصار الّذي حرّكته قوى غاشمة لتجعل الإنسان دون أمل أو طموح، ويحوّله إلى هارب بما في ذلك من نفسه، يعيش حالة اختناق عاجزاً عن مواجهة القدر والمصير.

فشخصيّة (الشّسمة) هي جزء من النّسيج الغرائبيّ المتأجّج بالصراع والقتل والدّم، هذا الحال الواقع خارج العقل والمنطق والفهم والاستيعاب، وكذلك الشّسمة فهي حقيقة في السّرد تقتل وتنتقم وتتعب وتخاف، وهي كذبة في الحوار، ومنه الحوار الّذي دار بين هادي مُجمّع الشّسمة وعزيز المصريّ صاحب المقهى الّذي قال له غاضباً من سماع أكاذيبه:

  • إنته إيه حكايتك انسى الحدوته الكدابة بتتاعتك
  • وش صار يعني؟
  • يدورون على اللي قتل الشحاتين الأربعة
  • وآني شللي علاقة؟
  • حكايتك دي ح توديك فمصيبة

فالحوار كان حاضناً لفعل التّكذيب، بينما السّرد كان يحتضن فعل الحقيقة.

  ومن خلال نظرة متأنّية للبنية الفنّيّة، وما تحمله من ملامح فكريّة، وقد تماهت البنيتان في وحدة موضوعيّة مبدعة، حيث نلمح أنّ السّعداويّ بنى روايته على مجموعة من الثّنائيّات الضّدّيّة (الصّدق والكذب- الحقيقة والخيال- الماضي والحاضر- الموت والحياة- الحرب والأمان- الوطن والمهجر- الأمل واليأس- البقاء والرّحيل …… الخ)، ورأينا أحياناً اجتماع إحدى طرفي أكثر من ثنائيّة في شخصيّة واحدة، ممّا جعل منها شخصيّة إيجابيّة دوماً؛ كالعجوز الآشوريّة (إيلشوا) المتمسّكة بأمل عودة ابنها وبيتها/ الوطن مقابل المهجر وإغراءاته، والبركة الّتي كانت تعمّ الحيّ بوجودها مقابل النّحس الّذي دمّره بعد غيابها، والعكس نجده في شخصيّات أخرى تتربّص بها كهادي العتّاق والدّلّال بحملهما الطّرف النّقيض من الثّنائيّات، كالكذب والطّمع والمراوغة، ولا نكاد نقع على شخصيّة في العمل تجمع طرفي ثنائيّة معاً، أو تعيش صراعاً بين طرفيها، ممّا يجعل أغلب الشّخصيّات مسطّحة ذات وجه واحد، مع تحوّل بعضها من طرف إلى آخر، فأمّ دانيال تخلّت عن البقاء والانتظار والأمل وهاجرت، ولأسباب أجاد الكاتب بها إقناعها وإقناعنا كقرّاء.

وأكاد أرى أنّ جميع هذه الثّنائيّات الضّدّيّة  تتمحوّر حول ثنائيّة واحدة هي الحاضر والغائب/ العراق الحاضر الغارق في العنف والقتل والخطف والتّفجيرات الّتي تنشر الأشلاء في كلّ مكان وتنسف وتعصف بالقيم الإنسانيّة والضّوابط الأخلاقية في كلّ شارع، حيث تتكاثر نماذج إنسانيّة مشوّهة، كما يتكاثر الذّباب على الجثث المجهولة الهويّة والمقتولة على الهويّة، وخلاصة هذا العالم أنّه عالم غرائبيّ لا مكان فيه لعقلنة ما يحدث.

وثمّة عالم آخر، عالم العراق الغائب قبل وبعد العراق الحاضر، فالذي قبلُ: يمتدّ من أيّام الآشوريّين، والّذي مازالت بقاياه من خلال العجوز أمّ دانيال إيلشوا، الآشوريّة المتمسّكة ببيتها القديم، رغم محاولات تجّار الحرب، كالدلّال الطّامع بشراء البيت وهادي العتاق الطّامع بتحفه وأنتيكاته، والدّلالة الرّمزيّة لهذه الشّخصيّة وهذه الدّار الّتي تمثّل العراق واضحة، وأقول تمثّل العراق الّذي كانت تبدو واجهته للعالم قبل الاحتلال قويّةً متماسكةً، لكنّه كان منهاراً منخوراً من الدّاخل هوى بين ليلة وضحاها أمام الاحتلال، وهذا ما أكّده الدّلّال بعد شراء بيت إيلشوا، من خلال ندمه على شرائه، فهو منهار من الدّاخل وسقط مع أوّل انفجار قربه، ومن رموز العراق الغائب الموغل في التّاريخ شخصيّة محمود سواديّ الصّحفيّ الّذي يعود إلى الصّابئة وأعتقد أنّهم الماناويّون أتباع ديانة ماني ما بين المسيحيّة والإسلام، أمّا العراق الغائب بعد انتهاء الحرب فهو عراقٌ حُلْميٌ يبحث عنه مجموعةٌ من المثقّفين والصّحفيّين، لكنّهم مهزومون مثقلون بنزواتهم وحبّ ذواتهم وعشق الشّهرة والخمر والنّساء، وبالتالي لا يقدّمون أيّة رؤية أو بصيص ضوء لإخراج الوطن من نفقه، فالعراق الحاضر محاصر بعالمين غائبين يحاولان الانتصار على واقعه الموشوم بالدم، الماضي والمستقبل.

ومن خلال الصّراع بين هاتين الثّنائيّتين تبدو عبقريّة الرّوائيّ في تجميع عناصر الغياب الّتي تشكّل العراق في شخصية غرائبيّة هي شخصيّة الشّسمة (فرانكشتاين)، فجسدها مؤلّف من أشلاء الضّحايا الأبرياء مجهولي الأسماء والهويّة، والّذين لا يبحث عنهم أحد، حتّى الحكومة لا تقوم بواجبها تجاههم، فزعم العتّاق أنّه يجمع الجثّة ليسلّمها إلى مشفى، وهم عامّة الشّعب العراقيّ، وقام بجمعها في خربة يهوديّة، إشارة لوجود هذا المكوّن اليهوديّ، بل أعطاه مكان احتضان تكوينها، أمّا روحها فمن جسد شيعيّ  (حسيب محمّد جعفر) كانت تائهة تيهان الشّيعة في العراق قبل الاحتلال، وتبحث عن جسد للتقمّص، ثمّ منحتها الآشوريّة إيلشوا اسم ولدها دانيال (الغائب الحاضر في دانيال الابن ودانيال الحفيد)، ومنحها الرّجل الطّيّب أبو سليم صوته الهادئ الوقور حين طلب منه تسجيل لصوت الشّسمة، والصّحفيّ السّواديّ الصّابئيّ مشروعيّة الوجود من خلال كتابة القصّة (فالشسمة هي مجموع مكوّنات الشّعب العراقيّ4) من أيّام الآشوريّين إلى آخر ضحيّة وهبتها الأنف، والأنف تحديداً للتنفّس من جديد وسط الغرق في طوفان الدّم، ولا يخفى أنّ هادي العتّاق المغرم بجمع الأشياء القديمة هو الّذي جمعها، فكانت من هذه الأشياء القديمة قدم التّاريخ، كما أنّ تنوّع الشّخصيّات الحاضرة والرّامزة لأقوام غائبة يحمل انعكاساً ورؤية للمرحلة التّاريخيّة الّتي تشكّلت بعد الاحتلال.

وهكذا انطلقت شخصيّة الشّسمه في شوارع بغداد، تنتقم لكلّ عضو فيها من القتلة، ولكنّنا نفاجأ بأنّ كلّ عضو يُنتقم له يسقط ويموت، وبالتالي هذه الشّخصيّة لن تستمرّ، وكان من المفترض أنّ كلّ عضو يقتل قاتليه يتحوّل إلى عضو حيّ فعّال في هذا الجسد العراقيّ الحالم بغد أفضل، بل والأكثر سوداويّة أنّها بدأت تقتل ليس للثأر بل لتبقى حيّة، فهي تحتاج أعضاء جديدة كي تستمرّ في انتقامها، فاضطرّت لقتل الأبرياء لترفد جسدها بالحياة.

وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل خرجت هذه الشّخصيّة الرّوائيّة على إرادة مبدعها أحمد سعداويّ، وانطلقت مُسيّرة على هوى الفضاء الزّمانيّ والمكانيّ الّذي اختاره لها؟ وهذا ما أعتقده، فشخصيّة الشّسمة (فرانكشتاين) الّتي حمّلها الكاتب أمل الخلاص والانتقام من القتلة، وهي شخصيّة عراقيّة بامتياز، وجُمعت من أشلائه، بمعنى آخر ولدت من رحم الموت العراقيّ، ونحن مع الكاتب أنّ المخلّص الحقيقيّ للعراق هم العراقيّون أنفسهم، وليس الاحتلال أو الأمريكان، وكذلك ليس الأموات، ولنتذكّر أنّ هذا الأمل المخلّص هو أشلاء ميتة في الأصل، فهل تكون أملاً لحياة؟ رغم أنّه نفخ فيها عناصر تاريخيّة  كالآشوريّين والصّابئة، وهي أيضاً عناصر ميتة في متاحف ومدافن العراق، وبالتالي طبيعيّ جدّاً أن يموت هذا الحلم المُؤمّل بالخلاص، لأنّه من عناصر ميتة أصلاً.

ولربّما أراد الكاتب أن يقول – كما قال من قبله أمين معلوف في (التّائهون) – إنّ الحرب أفسدت كلّ شيء، فهي لا تكتفي بالكشف عن أسوأ غرائزنا؛ بل تصنّعها وتقولبها، والكثير ممّن تحوّلوا إلى قتلةٍ وقطّاعِ طرقٍ كان من الممكن أن يكونوا أشخاصاً إيجابيّين في مجتمعاتهم، لولا أنّ الحرب قوّضت تلك المجتمعات، والانتقام الّذي انطلقت منه الشّسمة لن يولّد إلّا مزيداً من القتل والدّم والحرب والانتقام، فالمظلوم لينتقم من ظالميه عليه أن يظلم ليتابع هدفه، وإلّا ما معنى أن تقتل الشّسمة المتسوّلين المشرّدين ورجلاً عائداً إلى أطفاله بطعامهم؟

ويؤكّد هذه السّوداويّةَ المصيرُ الّذي واجهته الشّخصيّات جميعها، فكلّها طحنتها الحرب، بما فيها الشّسمة الّتي حوّلتها تلك القوى الغاشمة العاصفة في البلاد إلى أداة لتنفيذ مصالحها المتمركزة في القتل والإرهاب، وهذا ما يدفعنا إلى التّأكيد على أنّ السّعداويّ كغيره من كتّابِ أدبِ الحربِ لم يستطع أن يترك بارقةَ أملٍ للخلاص من هذا الواقع، بل يشعرك بالإحباط والمرارة لمصائر تلك الشّخصيّات.

وخلاصةً أقول إنّ السّعداويّ استطاع أن يضيف إلى الرّواية العربيّة عملاً جيّداً، يؤرّخ لحقبة تاريخيّة موغلة في الدّم والضّباب المهيمن على كافّة آفاقها، وهي – وإن لم تستطع أن تضيف رؤية فكريّة – فيكفيها تلك البنية الفنّيّة المتميّزة الّتي رصدت الواقعَ، وأخذت بيد القارئ دون أن يستطيع فكاكاً إلى تفاصيل عالم يقطع الأنفاس رعباً وتشويقاً، ووصل هذا التّنوّع الفنّيّ بالرواية إلى جائزة البوكر كما صرّحت إحدى القائمات على تقييم الأعمال في تلك الجائزة العالميّة للرواية العربيّة.  

وأختم دراستي بسؤال ينطلق من توحّد الأحداث الّتي تعصف في العراق زمنَ الرّواية مع ما يحدث في سوريّا اليوم وخلاصته: هل انطلقت الشّسمة أو فرانكشتاين في شوارع سوريّا المكتظّة بالأشلاء لتنتقم من قاتليها؟ وأعتقد أنّ الجواب نعم، لقد انطلقت ومنذ الأيّام الأولى من الثّورة مطالبة بالحرّيّة لا أكثر، ثمّ أجبرت على حمل السّلاح للدفاع عن نفسها، ثمّ تجسّدت في بعض الفصائل والتّنظيمات الّتي راحت تسيّرها لمصالحها، وحوّلتها إلى أداة قتل وإرهاب وسلب ونهب واعتقال، عانى منه الشّعب السّوريّ ربّما أكثر ممّا عانى أيّام الاستبداد، بل وأذهب أبعد من هذا إلى القول إنّ التّنظيمات الّتي تبنّت الشّسمة السّوريّة واستغلّت بعض  مكوّناتها التّاريخيّة والعقائديّة على أمل إقامة دولة الخلاص مستندة إلى تلك العناصر الميتة (دينيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة) سيكون مصيرها مصير الشّسمة العراقيّة، وإذا كان السّعداويّ قد انتهى بشسمته إلى الموت فعلى السّوريّين أن يرموا عن شسمتهم كلّ عناصرها الميتة، وأن يحرّروها  من معتقِلِيها الّذين سخّروها لمصالحهم، وجنحوا بالثورة إلى مطامعهم وأهوائهم المنحرفة، كي نصل إلى الخلاص

الهوامش:

  • أحمد سعداويّ: روائيّ وشاعر عراقيّ من مواليد بغداد 1973، صدر له شعراً: الوثن الغازي و نجاة زائدة وعيد الأغنيات السّيّئة وصورتي وأنا أحلم، وفي الرّواية: البلد الجميل الفائزة بالجائزة الأولى للرواية العربيّة بدبي 2005، ورواية إنّه يحلم أو يلعب أو يموت الفائزة بجائزة فاستيغال، وأخيراً فرانكشتاين في بغداد الفائزة بجائزة البوكر 2013.
  • القدس العربيّ، مقالة لخالد علي ياس.
  • جريدة المدى، العدد 3768
  • د. فالح العمرانيّ، فرانكشتاين في بغداد فيس بوك 2014
  • د. سليمان كاصد، جريدة تاتوو 7/6/2014

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

“أنشودة وطن” جديد الشاعر السوري محمد عارف قسوم..

بقلم ‌نمير الصالح تحت عنوان “أنشودة وطن” نشر الشاعر السوري محمد عارف قسوم على قناة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *