الرئيسية / شارع الثّقافة / “صليل الآه”.. عندما يُسْقِطُ  الشعرُ الأقنعة  كلّها..

“صليل الآه”.. عندما يُسْقِطُ  الشعرُ الأقنعة  كلّها..

بقلم: سيدي ولد أحمد الشنقيطي/ نشرت في جريدة العربي اليوم الإخباريّة

بتاريخ 19 – 2 – 2019

لم يَدُرْ في خلدي قبل (صليل الآه) أنّ ديوان شعر يمكن أن يفعل بإنسان ما فعل بي..
لقد دمّرني هذا الديوان.. دمّرني فعلاً..
وضعني أنا الإنسان العربيّ أمام اختبار حقيقي لذاتي وفي مواجهة حادة معها؛ حتى بتّ أكتوي بسؤال: أيّ قبح وصلتُ إليه اليوم؟!
بعد (صليل الآه) يجب عليّ أن أتوارى من سوء ما أنا عليه من عقوق ونفاق وغدر وضعف وهوان و(قلة أصل).. أو أن أعود إلى جذر عريق نقي ضارب في أعماق الإنسانية هو نقيضي الآن مائة بالمائة..
بعد (صليل الآه) ولكي أكون بشراً يجب أن ألقي في سلة المهملات كثيراً مما تربيتُ عليه..
بعد (صليل الآه) يجب أن أعود (أنا) وليس (سواي)..
بعد (صليل الآه) الحلُّ بيدي ليس بيد غيري، والحبُّ أوّلُه..
بعد (صليل الآه) ضروريٌّ جداً أن يعاد النظر إلى الأشياء من زاوية صحيحة هي في الأغلب مغايرةٌ لما هي عليه راهناً..
لا أقنعة.. لا مرايا بعده.. لا عمائم مزيفة.. كل شيء أصبح مكشوفاً..

ينصح ليبنتز leibnitz  المتوفّى سنة 1716 بضرورة أن يندمج الناقدُ في روحِ العملِ الفني عند تفسيره له، وأن ينظرَ إلى كل عمل فني على أنه جزءٌ لا يتجزأ عن الوسط الذي ينمو فيه.. ولا أخفي القارئ أني انطلقت من هذه النصيحة في دراستي هذه..محمّد عارف قسّوم في هذا الديوان كائنٌ ضوئيٌّ معبّأٌ بالحب ينزف شعراً بصمتٍ وهو يسبح في معتركِ عشقٍ لا ساحل له…… ولي ولكل قارئ له أن يقف على:

  • جزالةٍ مذهلة تجعل المتلقي يشعر كأنه في عكاظ جديد للشعر وبين صفوة من فحوله، وتعيد للقصيدة هيبتَها وطبيعتها التي كثيراً ما شوّهها الأدعياء بالمساحيق والماكياجات وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.. وإلا فما يقال في قصيدته (لبهاء كأسك) – ومثلها في الديوان كثير – التي يقول فيها مخاطباً رسول الإنسانية محمّد صلّى الله عليه وسلّم:

يا أنت يا مَـنْ للقلــــــوبِ شــــــــبابُها..

الأبهى، ويا مَـنْ إنْ وَهَــــتْ عُكَّازُهــا

أنقذتَهـَــــــا مِنْ مُســـــــتفزِّ غوايـــــةٍ

حتّــى ليســــــقط دونـكَ اســـتفزازُهـا
وبعثتَهـَــــا مِـنْ بَعـْــــدِ كانتْ صَفصفاً

عجفـــاءَ خاويـــةَ الحَشَـــا أعجازُهــا

  • عمقٌ لذيذ مستعذب لا يُسْلِمُ كله إلّا لقارئ حاذق، ويمكن لغير الحاذق أن ينهل منه الجَمالَ بقَدَر….

 لنتوقف مثلاً عند بيت واحدٍ يبدو للوهلة الأولى سهلَ المنال  – مستغرَباً من شاعرٍ عُرفَ بكتابته أجمل القصائد وأعذبَها في مديح النبي محمّد صلّى الله عليه وسَلَّم – ولكنه بيتٌ عميقُ الغورِ يأخذ بمجامع العقلِ والقلبِ حدَّ الإدهاش..

          يقول محمّد عارف قسّوم:

          وتَعَــــــرّي إلّا من الصّـدق  طُهْــــرَاً

          أصــــــدقُ الطّهْــــــرِ عندما نتعــرّى

الأصلُ التستّرُ والحياء وعدمُ التعرّي في الإسلامِ (اللباس المحتشم – الحياء شعبة من الإيمان) وفي المسيحيةِ (أيقونة السيّدة مريم العذراء في الكنائس – مثلاً – مكتسية من الرأس حتّى أخمص القدم، كما لايسمح بدخول غير المحتشم رجلاً أو امرأةً إلى الفاتيكان..) وفي اليهوديّةِ أيضاً (المرأة اليهوديّة الملتزمة لا يمكن أن تكشف عن جسدها..) فكيف يدعو محمّد عارف قسّوم إلى مثل هذا؟ وعن أيّ طهرٍ يتحدث؟

معلومٌ أنّ عُرْيَ حواء المرأةِ الأولى هو “العريُ الطهورُ” فقط؛ ذلك أن عُريَها كان أمام رجلٍ واحدٍ لا يوجد غيرُه على الأرض هو زوجُها آدم.. واليوم بمهارةٍ فنية عاليةٍ يُزيل الشاعرُ قسّوم التفقيطَ عن الحالة، فالحبيبُ وهو في حضرةِ المحبوب واحدٌ لا اثنان يفنى العالمُ من حولهما فناءً كاملاً فلا يَرَيَانِ ولا يُرَيَان؛ وتعرّيهما عن الـ (غير) والـ (سِوى) أصدقُ الطهرِ وأعظمُه..

هو العمقُ الشفيف إذن، وهي الخمرةُ الإلهيةُ عندما تفتك بألباب المحبين…

  • وعي حاد بالذات، وإدراك عميق لأسباب تأخرها ورسمٌ مبصر لطريق خلاصها، كالذي نجده في قصيدته (مهلاً أبا خالد) التي يناجي فيها الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد:

  يا أُمَّةً تَدَّعي مجـــــــــــداً وليس لهــا

  منهُ إذا قيـــل أين المجدُ مثقــــــــــالُ

  مازال يفتكُ كيـــــــــــدُ العلقميِّ بهــا

  والخائنـــــون لهذا الشّـــعبِ ما زالوا

  قد مزّقَتها يدُ الباغين لا أحـــــــــــــدٌ

  إلّا وأثخنَ؛ حتّى العَــــــــــمُّ والخــالُ

  وأيُّ مســــــــتقبلٍ يا أُمَّـــــةً أَمَــــــةً

  يســـوسُها اليوم نصّـــابٌ ودجّـــالُ؟!

أو كالذي يذهب إليه في قصيدته (لاشيء) التي يقرر فيها ضياع الأمة واصفرار أوراقها وعجزها وهرمها:

  لا الليلُ، لا الخيـلُ، لا كــــــلُّ الّذي زَعَمُــوا

  لا السّيفُ، لا الرّمحُ، لا القرطاسُ، لا القَلَمُ

  لا شــــيء، لا شـــيء غير الوهم مسـتعراً

  وأمّـــــــة ضحكــتْ من جهلِهــَــــا الأمــــمُ

ولعلّ قصيدته (لا تسلني مَنْ نحن؟) خير شاهدٍ على ذلك الوعي:

  نحـن قَــشٌّ وَلَاْتَ حِيــنَ حَصَـــــــــــادِ

  ورمـــــــــادٌ على حُطَـــامِ رمَــــــــــادِ

  نحن لا شيء.. غُرْبَـــــةٌ وضَيَـــــــاعٌ

  وشِـــــــــراعٌ يَسيــرُ مِنْ غير هـــــادِ

  عُمْرُنا الوَهْـــــمُ.. كـــلَّ يــــومٍ جديــدٌ

  عن حكـــــايا مجهولـــــــةِ الإســـــنادِ

ومثل هذا الإدراك بدا واضحاً في قصيدته (سلام على عينيك) التي يحتفي بها بولادة فلذة كبده أوس، والتي تجاوزت معاني الاحتفاء إلى كشف ملامح مأساة الوطن الكبرى:

   نســـــــاءٌ وأطفالٌ وأشــلاءُ أُمّــــــــــــةٍ

  ومســــتقبلٌ يقضي على غَــدِه الأمــــسُ

  ودوّامَـــــــــــــةٌ للظّلمِ رَهْــــــنُ حُدودِها

  بلادٌ عليها أطبق الجِـــــنُّ والإنْـــــــــسُ

  طغى الخطبُ حتّى شحمةِ الأذْنِ جارفـــاً

  وما زال يَحْلَولي لخـــوّانها الغَطْـــــــسُ

  وما زالت الأعـــرابُ فوضى غوايــــــةٍ

  وذبيــانُ ما زالــتْ تقاتلُــها عَبْـــــــــسُ

  • شراكة القارئ مع الشاعر في جميع قصائد الديوان ليست خافية؛ فمنذ العنوان لم يقل الشاعر (صليل آهي) ولكنّه عنون بـ (صليل الآه) هكذا ليعبر عن كل (آه) من آهات المجموع، وليجعل القارئَ شريكَ هَمٍّ ووجعٍ ومصير في الديوان منذ أول عتبة يعبرها في الطريق إليه، دون أن يعاني كثيراً لأنه المستوعب لخلفيات القصائد ومضامينها وتشكيلاتها مسبقاً.. كيف لا وهو يعرف محمّد عارف قسّوم قلباً نقياً طاهراً ملتصقاً بالناس ويعرف في الوقت نفسه أن قصائد الديوان هي محمّد عارف قسوم.. إذن هو يعرف القصائد جيداً من خلال معرفته العميقة بشخصية صاحبها الشفافة الرافضة للأقنعة جملة وتفصيلاً، ويعي جيداً أن هذه الآهَ المستلّةَ كسيفٍ من الصدر هي آهُ الأمة.. ثمّ يستمرّ الوجع المشترك والحلم المشترك………………
  • استبصار خاص واستدعاء حاذق لشخصيات ورموز وأمكنة تاريخية وثيقة الصلة بذاكرة الأمة – تلميحاً أو تصريحاً من مثل: (نوح، المسيح، الجودي، سعاد، يوسف وإخوته، يعقوب، السجن، السنابل، السنوات العجاف، البئر، زيد وعمرو، الطوفان، مريم، القميص، ليلى، الذئب، العصا، إساف، نائلة، الغار، قريش، ذبيان، أبو الهول، الأوس، الخزرج، العزّى، اللات، الكليم، محمّد، جبريل، العلقمي، أبرهة، الفيل…… ) وتوظيفها بشكل محكم في تشكيل وعي متلقيه كما يشاء هو، مثيراً جملة من التساؤلات عن سببية هذا الاستدعاء بما يساهم في إنتاج استبصاره الخاص.
  • تجديد عذب في الشكل العموديّ يسهم في صقل ذائقة المتلقّي، وتنويع إيقاعيّ وموسيقي في القصيدة الواحدة، وفتح للباب أمام التقفية كي تتحرر إلى حد كبير، فتتنوع، وتتوزَّع، وكسر لتقليدية الشعر.. ولنا هنا أن نقرأ مستعذبين:

  وقد يُشْرِقُ القلبُ بالوَجْدِ..

  يغدو لِظِلّكَ يا أيّها الوَرْدُ ظِلّا

  تُغَرْبِلُ عيناهُ قمحَ الدّموعِ..

  ويدنو؛ على شَفَقِ الرّوحِ مُتَّكِئاً..

  قَابَ قَوسَيْن مِنْ حُلُمٍ لَمْ يَزَلْ بَعْدُ طِفْلَا

  سلامٌ عليكَ..

  على كلّ مَنْ ظَلَّ يُؤمِنُ

  رغمَ مرارةِ مَا حَلَّ  بالحبّ حَلّا

أيضاً ذاك الذي تتلذذ به الروح وهي تغنّي قصيدته الرائعة (أنتِ قلبي)، وفيها:

  اطردي سـودَ الليالي وتعالي.. مزّقيهــا.. أثَرَاً مِنْ بعدِ عَيْـنْ

  وهبيني رأفــةً منـكِ بِحَالـي.. أَحتسِيها.. رشفةً بل رشـفتينْ

  أنتِ يا البـدرُ على الكــــون تجلّـى

  ليس من حسنِكِ أحلى، ليس أغلى

  جاء يســــــــتلهمُ منــكِ اليومَ نُبْلا

  كلُّ مَــــنْ يعرفُ مَنْ أنتِ وَمَــنْ لا

  لا يُــــرَى إلّا النّدامـى فيــكِ قتلــى

  فأديريها  لحاظــــاً مــــِنْ مُـــــدَامْ

  .. ووئامْ

  انزعي كـــــلَّ لثَــامْ

  وعصا روحي اضربي البحرَ بها، وانتشلي الغرقى..

  حَرَامْ.. أن يظلّ الظّلم في البرّ وفي البحر حرام…..

و(قاب قوس الشمس) التي يقول فيها:

  هطلَ المساءُ،

  ولم يَعُدْ إلّا لعينيها يراودُني حنيني

  اثنانِ، ثالثُنا الضّياءُ،

  كما نشاءُ

  أُعيذُها بِيْ أنْ نكونَ كما يشاءُ النّاسُ مِنْ ماءٍ وطينِ

  نَقتاتُ لَحْمَيْنا، ولا نتسوّلُ الغرباءَ..

  عريانانِ؛ ذئبُ البَرْدِ ينهشُنا،

  نلوذُ بنا، ونصبرُ..

  أرتديها..

  ترتديني

وما جاء في وداعه لصديقه الشاعر الشيخ وِلد بلعمش:

  أنيقاً بموتك كنتَ،

  لطيفاً..

  خفيفاً كظلّ الرّصيفِ على قدميكَ..

  مضيتَ تجرُّ الخُطا يا حبيبي..

  وكالنور عشت شفيفاً..

  رحلتَ شفيفا

  وداعاً.. وداعاً..

تُرَى؛ قَمْحُ روحِكَ مَنْ بَعْدَهُ يَهَبُ المُعْوزين الرّغيفا؟

  • الهُويّة الواضحة جداً الرافضة للضبابية والتمسك بها، والاستعداد العالي للتضحية في سبيل صونها ووضعها في بؤرة الضوء رغم كل محاولات تهميشها وإلغائها.. وهذا يبدو جلياً في نصه (ياصامتاً في حزنه)، إذ يقول:

  يا أيّها السّـــــــوريُّ حَسْـبُـــك مَلْعَبَــاً

  ما بينَ نســــرين الشّـــــموخِ وفُلِّــــهِ

  يا مَنْ إذا أقمـــــــارُ قُوّتِهـِــــمْ وَهَــتْ

  يرفُو ثقـــــوبَ بَرِيْقِهِــــــنّ بِنَصْلِـــــهِ

  يا صامتــاً في حُزْنِـــــهِ، يا واحـــــداً

  لم يَسـْــــمَعِ الصّبـــرُ الجميـــلُ بمثلِـهِ

  إنْ لم تَكُــــــنْ لشـــــــــهيدِ حُبٍّ ثَأرَهُ

  فَبِمَنْ تلـــوذُ اليومَ دمعــةُ طفلِـــــــهِ؟!

  • التوظيف البارع للّغة، والخروج على ما هو مألوف أحياناً بكل سلاسة وعذوبة.. فالحرف يمكن أن يقع فاعلاً مثلاً:

   ولئنْ رأيتِ بـ (قَدْ) و (رُبَّ) الرّوحَ عالقةً

   فقــــــــد تأتــي بـبعــضِ الوعـــــدِ (رُبَّ)..

   ورُبَّ ما قطعتـــــــــــــهُ تُنْجِزُ بعضَهُ (قَدُّ)

وهذا التجديد اللغوي مناسب جداً لذات الشاعر الرافضة لكثير من الموروث البالي المهترئ غير القابل للحياة..وكذلك نرى مثل هذا الخروج المحبّب في قوله:

  وبيني وبينكِ..

  ما بين بيني وبيني

  إذا امتزج القلبُ بالقلبِ..

  أينكِ أنتِ وأيني؟

  • القدرة على مواكبة اللحظة الدراماتيكية المنبثقة من جحيمِ المأساة، والتماهي التام مع أحداث وطنه:

  يا ســـــــائلاً لا تَسَــلْ عن أمّتي وبِهَـا

  يحــــزُّ سِــــكِّيْنَهُ في النّــــاسِ قابيـــلُ

  يُنْبِيْـكَ بَعْضُ اســــتِمَاعٍ عنْ فجيعتِهـا

  لَمَّـا بِجَوْفِ الدُّجَــــى تَبْكي المَثاكيـــلُ

  تَنَاسَــــلَ الشَّـــــرُّ.. أبدى ناجِذَيْهِ لها

  وعــــاد أبْرَهَةٌ للغَـــــزْوِ والفِيْــــــــل

  ومَا أُبَــــرِّئُ مِــنْ أبنائِهـــــا أحَــــــداً

  فالكُــلُّ مُشْــــــتَرِكٌ بِالإثْمِ.. مســؤولُ

  • القدرة المبهرة على تكثيف ما يريد قوله إلى أقصى حد… ولعل نصه (شجرة) أبلغ شاهد عل ذلك:

  أراد أنْ يحرقها..

  فجاءها مُلتحِفاً بعَتْمَةِ الدّيجورْ

  أحرقها.. فاحترق الكونُ بمن فيه..!

  وظلّت رغمه الجذورْ

  •  توظيف تقنية الحذف بشكل مبهر، والحذفُ شجاعةٌ في العربية – قولةَ ابن جنّي -:

وإذا تُغـِـــلُّ الكـــفَّ خَشْـــيَةَ جَدْبِهــا

رَاحٌ، ســِــوى بالروحِ  تَهْمِي كفُّـــهُ

  • جمالية القفلة والنهاية العالية للنصّ.. وهذا يُلمَح بوضوح في قوله:

  حســـبي بأنّي واحدٌ في الأنامْ

  لو كلُّهــمْ نامــــوا مُحالٌ أنـامْ

  والكونُ فيهِ ظفرُ طفـلٍ يُضامْ

  ما همّني وحــدي وهم كثــرةٌ

  فالمنهلُ الصّعبُ قليلُ الزّحـامْ

  • الانحياز الكامل إلى الشعر باعتباره تكثيفاً وعمقاً لا استعراضاً لغويّاً فارغاً:

  من غيـــــــرهُ للناحليـــن تَضَــــوُّراً

  يَسَّـــابَقَان شــــِـتَا نـَـدَاهُ وصيفُـــهُ؟

  إنْ ضاقتِ الرّؤيا وأطبــقَ حـَـــدُّهـا

  مَدَّ السّــــماءِ، وفوق ذلك سَـــقْفُـهُ

  هانـوا، تَمَـرَّغُ بالتـرابِ أنوفُهُـــــمْ

  إلّاه سِـــــــــدْرَتُهُ العَليّـةُ أنْفُــــــــهُ

  لم يَرْضَ غيرَ ذُراهُ، بَيْدَ على شـفا

  من أخمصيــهِ الخصـمُ هارٍ جُرْفُـهُ

  • تأصيل مصطلح “الحبّ” ووسمه بفلسفة إنسانية مختلفة وحركة جامحة لا تهدأ، فالشاعر يرى الإنسانية وطناً مشتركاً لجميع البشر.. تماماً مثلما يرى الله مرسل الرسالات جميعها ربّاً مشتركاً للجميع، ويؤمن بالحب نهجَ وصول إلى ذاته العلية:

  أحببتُهـــا..كيفَ لايفنى بِهَا شَـــــــغَفَاً

  طِيْنٌ بِماءِ هواهــا العَــذْبِ مجبُــولُ؟!

  وَمَـــــا عَلَيَّ إذا ماالحـبُّ مِنْ شِـــيَمِي

  دِيْنِي هُوَ الحُـــبُّ قُرْآنٌ وإنجيــــــــــلُ

  وأحمــــــــــدٌ ويســــــوعٌ والكليمُ مَعَاً

  وكـلُّ مَــنْ جـــاءه بالوحـي جِبْرِيـــــلُ

  • الكتابة بلون يناسب سجايا الشاعر وروحه.. كقوله:

  أنا ابـنُ أنا، ضيــاءٌ ليــس يخبــو

  وحَقـْــلٌ مِنْ شـَفِيفِ النّورِ خصْبُ

  ووجـهٌ طاعنٌ في الحُسْــــنِ حتّى

  على قمريــــن لا كفّيـــــن يحبــو

  جُبِلْتُ على الوفـاءِ قميصَ صِدقٍ

  سِـــوى لي إخـوةٌ خانوا.. وجـبُّ

  من الصّخر الأصمّ أشـدّ.. أقســى

  ووحدي في صميم الصّخـرِ قلـبُ

  • الصياغة المتفردة حتى للأفكار المتداولة، ومن ذلك ما جاء في قصيدته:

  وأنزلُ ضيفاً على شفتيها

  فيشربني الخمرُ..

  تغمرُني باللذاذاتِ راح

  حنانَك يا ديكُ..

  نَمْ..

  نَمْ طويلاً..

  حذارِ تصيح..

  فيصحو الصّباح

وهو ما يحيل إلى قصيدة أبي إسحق الصابي التي يقول فيها: 

جرّدتـُــها واعتنقنا كلٌّ لكلٍّ وشـــــــاحْ

باتتْ وكلُّ مَصونٍ لي من حِماها مُباحْ
في ليلةٍ لم يَعِبْها في الدهر إلّا الصباحْ

  • فخر بالذات لا يشبهه غيره أحيا باحترافية عالية غرضاً شعرياً انقرض أو كاد:

         قد كـــاد يغفـــــــرُ.. بَيْدَ أنّ جميعَهـمْ 

مِمَّـــنْ تَرَبّى في مَضَـــاربِ فَضْلِـــهِ 

جَفَّتْ خوابيهـمْ؛ سوى عسلِ الوفـــا 

ما زال يَنْســـُـــــجُ قُرصَهُ مِنْ نَحْلِـهِ 

نَذَرَ الحيـــــاةَ لهمْ وجـادَ بروحِـــــهِ 

لكنّهـــــــمْ؛ كُـــــــلٌّ يَلـَــــــذّ بِقَتْلِـــهِ! 

يعلو، وتُمْعِنُ في السّـــقوطِ نفوسُهُمْ 

وهـو الّــــذي لا يَلحقــــــونَ بِنَعْلِـــهِ 

حَدَّ النّجومِ سَـــــــمَا.. كأنْ قَدْ هُيِئتْ 

لتكـــونَ خلخــــالاً يَتِيـــــهُ بِرِجلِــــهِ

ويمتد الفخر ليصل الأسرة، حيث نجد الوفاء اللافت لها، ولايخفى أن الأسرة هي امتداد الشاعر فمديحُها مديحُ الشاعر لذاته: يتّضح هذا في نص (معراج القلوب) الذي يخاطب من خلاله ولده العارف بالله:

فَيَا عَارِفَـاً لمْ أَدْرِ نَفْسَـــــــــــــــــكَ حِيْنَهَـــــا 

صَفَتْ فوقَ حَـدِّ الوَصْفِ أمْ يا تُرَى نَفْسِـــيْ؟ 

رَأَيْـتُ بِعَيْنَيْـــــــكَ المعَــــــــــارفَ كُلَّـــــــهَا 

وَسِــــرَّ (أَلَمْ نَشْـــــرَحْ) كَذَا (آية الكُــرْسِـيْ) 

وَأَبْصَــــــــرْتُ أخـلاقَ النبيِّ مُحَمَّــــــــــــــدٍ 

وَأَيْقَنْتُ أنَّ الغُصْـــــــــنَ مِنْ ذلــكَ الغَـــرْسِ

وكذلك ابنته فاطمة الزهراء التي يرى فيها نفسه، كما أشار هو في قصيدة (هي طفلتي عيني): 

هي طفلتي..

عيني.. 

وحسبي أنّني.. 

شاهدتُ نفسي عندما شاهدتُها.. 

ورأيتُ أمّي “فاطمةْ” 

ثم الفردوس ابنته النور والحلم والفرح:

  يا أيّها الفرحُ الّذي يجتاحني،

  ويحيل أيّامي بخمرتِهِ سُكارى

  يا أيّها الـ  ما كنتُ لولا وجهُها الوضّاءُ ألقاني..

  وما آنستُ لولا النّورُ تفرشُهُ على طرقاتِ قلبي الطّفلِ نارا

وكذلك الفيحاء التي تمثل السمو والسحر: 

وجئتِ؛ ما بســطتْ للناس راحتَها 

عيناك إلّا لِفَرْطِ الوجدِ قد صُـرِعوا

 وما تهاووا سـُـقوطاً في ظلامِهِـمُ 

إلّا بهمْ وجهُـــكِ الوضّـــاءُ يرتفـعُ

ولاحقاً (بلقيس) ملكةِ الروح.. الأصلِ الطيبِ والمعدنِ التبر: 

سَـــفَحْتِ قــواريرَ الصَّفاءِ جميعَهَــا 

فَمَــــا خَافِـــــقٌ إلّا بهــــــا يَتَوَضَّـــأُ

وإنَّ إليــــــكِ الأصلُ تُنْمَى أصولُـــه 

فَمَعْـدنُكِ التِّبْـــرُ الّذي ليـــس يَصْــدَأُ

وصولاً إلى (أوس) الذي يغمر ضياؤه الدنيا:

  وإنّك أنت الضّـــوءُ جـادَ بما لَــــــــــــه

  وفاضت على الدّنيــا أناملُــــه الخَمْــسُ

وفي (آه عليك) كما (هي طفلتي عيني) من قبلُ يمتد المديح والافتخار إلى رفيقة دربه التي يرى فيها الحب والأمل والقلب العامر بالإيمان والحنان، وهي الثلاثية التي يتشكل منها:

معاً ســــلكنا دروبَ الحبّ يا أملاً 

لولاه لم يبــقَ لا حـبٌّ ولا أمــــلُ 

يا أمّ عارف لا يُحْـــزِنْكِ ما فعلتْ 

سودُ اللّيالي ولا يَحْزُنْكِ ما فعلوا 

مادام قلبُــــــكِ بالإيمـانِ يغمرُني 

ما هَمَّ ما ذبحـــوا منّي وما قتلوا

  • الفناء في الآخر – حتى المختلف – والتضحية والتفاني من أجله:
    ولســـــتُ أبســــــــــطُ إلّا بالوفــاءِ يَــدي

حتّى لِمَنْ يُغمِــــــدُ السّــــــكّينَ في عُنُقِـي 

أُعيـــــذُهَا بِــكَ ألّا يُســـْــــــــتَجَاب لهــــا 

من قبل ينشـــــف ريقُ الحِبْـرِ في الوَرَقِ 

أفنَـى ليبقـى ذووهـا.. الـرّوحُ أُرْخِصُــهَـا 

مَا هَـمَّ أغـــرَقُ كي ينجــوا من الغَــــرَقِ

أو كالذي نقرأ في نصه (صليل الآه): 

ماضٍ؛ فإنْ شاهدتَني أمضي لحتفي طائعاً.. 

فلأجلِ أُطفئُ شـــهوةً للقتلِ عندهمُ إذا تبدو

ولأجلِ أشغَلُهُمْ بنفسي عن جميعِ الأبرياءِ.. 

لأجلِ شمس الوَجْدِ تلفحُ ما تَكَدَّسَ من ظلالِ الأمنياتِ..

فيشرق الوَجْدُ

ليس شعراً ما سيقف عليه القارئ في (صليل الآه).. إنما هو لذة  تلامس الروح وتجعل صاحبها يصيح منذهلاً: يااالله!
نفثاتُ قلبٍ حرّى، وذاتٌ تتقد إنسانيةً تؤنسن كل الأشياء..
قطراتُ نغم.. مضامين تنبض بالحياة.. انفتاحٌ على عالم الجمال الرحب ورفضٌ تامٌّ للتقوقع والانغلاق والإقصاء والإلغاء، وفهمٌ صحيحٌ لـ (من نحن؟)..
فضاءٌ إبداعي ساحرٌ رحبٌ شديدُ الجاذبية منحازٌ إلى كل ما هو أخلاقي وإنساني، يجد نفسَه فيه كلُّ قارئ، سواء كان محترفاً أم عادياً أم لأي مستوى ينتمي، ويعيد ترتيبه إلى أن يرجع إلى صورته الحقيقية قبل أن يلوّثها غبارُ الأيام..

ديوانٌ رائعٌ يستحقّ القراءة مراراً وتكراراً، وقصائد لا تعلّق على أستار كعبة الشعر بل تُنقَش على جدرانها..

***

عن Mr.admin

شاهد أيضاً

“أنشودة وطن” جديد الشاعر السوري محمد عارف قسوم..

بقلم ‌نمير الصالح تحت عنوان “أنشودة وطن” نشر الشاعر السوري محمد عارف قسوم على قناة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *