صلاح الدّين بين الشّبقيّة الانتقاميّة والحقيقة التّاريخيّة
“طبيعيٌّ في الزّمنِ المنكوسِ أنْ يُغتَال المصلحون أحياءً وميّتين.. هل صلاحُ الدّين أكذوبةٌ كما ادّعى يوسف زيدان وأيّده في ذلك ليبرمان؟!.. هل هو انعكاس لشبقِ (الأنا) الانتقاميّ وردّ فعل حالة التّقزّم النّخبويّة في وجه (الآخر) المتميّز..؟”
بهذين السّؤالين وأسئلة أخرى افتتح الشّاعر والكاتب محمد عارف قسوم رئيس ملتقى خطوة جلسة السّبت الثّقافي الدّوريّة بتاريخ 12/5/2017، والّتي خصّصت لمناقشة ما تناقلته وسائل الإعلام وصفحات التّواصل الاجتماعيّ من هجوم الرّوائيّ والباحث التّاريخيّ يوسف زيدان السّافر على شخصيّة صلاح الدّين الأيوبيّ خلال مقابلة تلفازيّة أجريت معه مؤخّراً، حيث كانت إجابته الحرفيّة على سؤال طُرِحَ عليه حول عين جالوت وصلاح الدّين وقطز وتلك المرحلة: ” دي كلّها مغالطات تاريخيّة، يعني لا صلاح الدّين ولاقطز ولاالكلام ده ….. التّاريخ مش كده … انبش التّاريخ قبل سنة خمسين مش حتلاقي الحاجات دي ، لا صلاح الدّين ولا قطز . هم خلق مؤسّسة الحكم في الوقت ده… صلاح الدّين واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ “.
وعلّل ذلك بطريقة قضائه على الدّولة الفاطميّة كما يفهمها هو. وتوخياً للموضوعيّة الّتي افتقدها زيدان في حديثة علّق الشاعر قسوم بقوله: “ينبغي لقارئ التّاريخ أن يكون منصفاً، موضوعيّاً، مفكّكاً له بخيره وشرّه، لا نَسلُبُ يوسف زيدان حقّه في الاختلاف، ولا نصنّفُه من مدّعي الثّقافة كما ذهب بعضُهم، ولكن لا نقبلُ أبداً أن يَكيل هو أو أيُّ أحدٍ التّهمَ جُزافاً بحقّ شخصٍ ما دون مستندٍ أو دليل.. بل ونقابلُ بغضبٍ شديدٍ وتقزّزٍ أيّةَ شتيمةٍ يتفوّه بها في وجه من لم يشكّك عدوٌ أو صديقٌ بتميّز شخصيّته أصلاً.. “.
وبخصوص اتّهام زيدان بتقويض الدّولة الفاطميّة وارتكابه جرائم حرب ضدّها قال: ” لعلّ أهمّ ما يوجّه لصلاح الدّين الأيوبيّ أنه قوّض الدّولة الفاطميّة، ويذهب بعضُهم إلى أنّه ساهم بتسنين المنطقة بعد سنوات من التّشيّع. ولكن نسي هؤلاء أنّ الدّولةَ الفاطميّة ككلّ الدّول في التّاريخ لها طفولة وشباب وكهولة وشيخوخة وسقوط، ..( شأنها في ذلك شأن الدّول الأمويّة والعباسيّة والأيّوبيّة والمملوكيّة والعثمانيّة..).. إذْ تبدأ الدّولة مع جيلٍ ذي بأسٍ وعزيمة كحالة إنقاذ من واقع غالباً ما يكون سيّئاً ضعيفاً، ولكن مع الأيام يذهب جيل العزيمة والبأس، وتأتي أجيال ضعيفةٌ خائرة القوى؛ فتتحول دولةُ الإنقاذ نفسُها إلى جسم سقيم ضعيف يحتاج إلى منقذٍ جديد.. وهكذا..
لو لم يُسقِط صلاح الدّين الدّولة الفاطميّة الّتي كانت تلفظ أنفاسَها الأخيرة آنذاك لأسقطها غيرُه.. ثمّ إنّ ما واجهها به كان طافحاً بالحكمة والتّعقّل والمسؤوليّة.. لم يشأ صلاح الدّين – مع امتلاكه كلّ أسباب القوّة والغلبة – أنْ يُسيء للخليفة الفاطميّ العاضد، بل حفظ عليه مكانتَه ومنزلتَه وأبقاه في قصره حتّى توفّي بعد سنتين، وحينئذٍ أُعلنتْ نهاية الدّولة الفاطميّة..”. وأشار قسوم إلى ما قابل به الإسماعيليّون أنفسُهم صلاحَ الدّين، وهم من أشدّ الخصوم له بعد سقوط الدّولة الفاطميّة.. فعندما غزاهم صلاح الدّين في مصياف، تصدّى الإمام سنان راشد الدّين لمسؤوليّاته كإمام للطائفة وكمؤتمن على مصلحتِها وتحوّل بحالةِ العداء مع صلاح الدّين إلى حالةِ تحالف، وكان أنْ أطلق كتيبة إسماعيليّة فدائيّة تختلف المصادر حول تعدادها ما بين خمسة آلاف وعشرين ألفاً، دخلت القدسَ فاتحةً إلى جانب صلاح الدّين عام 583 هجرية….”.
واختتم الأستاذ قسوم حديثه بالقول: “من البداهة أن يكون تسفيه يوسف زيدان لشخصيّة صلاح الدّين عملاً مستهجناً مذموماً متناقضاً مع كلّ ما سجّله له بإنصافٍ السّنّةُ والّشّيعةُ والإسماعيليّةُ والمسيحيّون أنفسُهم.. “.
بعد ذلك قام الباحث المتخصّص بشؤون التّاريخ حسام حلّاق بتقديم بحث في عصر صلاح الدّين والظّروف الموضوعيّة الّتي أسفرت عن وجوده وإنجازاته في التّاريخ العربيّ والإسلاميّ والعالميّ، وبدأ بالحديث عن عصر صلاح الدّين من خلال مقارنة الأوضاع المعيشيّة بين المشرق والمغرب آنذاك، يقول حلّاق:
– كانت أغلبيّة الشّعب الأوربيّ (في عصر صلاح الدّين) من العبيد، وقد وصلت نسبتهم إلى 98%، أمّا الفرسان و رجال الكنيسة فنسبتهم2%. – أمّا في بلاد المسلمين فالعكس تماماً، فقد كانت البلاد تعيش حالةَ رخاءٍ في كافّة مجالات الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة. – ومن الانجازات الّتي تحقّقت في ذلك العصر ما قدمه (الجزريّ) من اختراعات ساهمت في خدمة البشريّة حينها، كالمضخّة المائيّة والقفل الّذي يعمل بالرموز السّريّة، إلى جانب عدد من الاختراعات، والّتي وصل عددها إلى 50 اختراعاً.
وتطرّق الباحث حلّاق إلى أنّ المصادر التّاريخيّة ولاسيما العربيّة منها لم تذكر عن صلاح الدّين غير معركة حطّين وفتح القدس، وتناست أنّ أفضل العصور الّتي عاشها المسلمون هي تلك المتمثّلة بعصر صلاح الدّين. ونوّه الباحث بترفّع ذاك العصر عن الطّائفيّة والتّعصّب العرقيّ، مبرهناً على أنّ انتصارات صلاح الدّين كانت ثمرةً لتضافر جهود أجيال كثيرة، يقول: “تحرير القدس من قبل صلاح الدّين لم يكن بفعل عصاً سحريّة، وإنّما جاء متابعة لعمل استمر قرابة 60 عاماً، بدأه عماد الدّين زنكيّ ثم نور الدّين زنكيّ حتّى جاء الأخير ليحقّق الحلم بدخول بيت المقدس.
فصلاح الدّين لم يكن “سوبر مان” أو المهديّ المنتظر، بل كان عالماً بفرائض النّصر وسننه ومنها:
– أنّ النّصر لا يكون بالعقيدة والمعنويّات العالية فحسب؛ بل يجب أن يكون إلى جانبها استعداد تقنيّ وتكتيكيّ.
– التّدرج في الإصلاح.. فقد قضى صلاح الدّين 30عاماً في إصلاح البلاد الإسلاميّة وتوحيدها.
وفي عرض للأوضاع التي عاشها المسلمون في عهد صلاح الدّين قال: كانت الأوضاع الاقتصاديّة جيّدة من حيث الصّناعة والتّجارة. أمّا الأوضاع العسكريّة فقد استطاع المسلمون امتلاك أكثر الأسلحة تطوّراً في ذلك الزّمن، فقد امتلكوا أوّل قنبلة يدويّة وطوربيداً بحرياً لصدّ الهجمات الّتي تأتي عبر السّفن المعادية لهم. أمّا اللّباس العسكريّ فقد تفوّق المسلمون على الصّليبيين من حيث نوعيّة اللّباس، فقد كان مصنوعاً من أكثر أنواع الأقمشة متانةً وقوّةً وبوزن خفيف يتيح للمقاتل حرّيّة الحركة على عكس اللّباس الصّليبيّ. وقد استطاع المسلمون ابتكار الموسيقى العسكريّة الّتي كانت تحمل في طيّاتها رسائل مشفّرة تساعدهم أثناء المعارك. ورافق حديث الحلّاق عرض لمقاطع من فلم صلاح الدّين وصور وخرائط من ذلك االعصر. وبعد أن أنهى الباحث حسام حلّاق عرضه قدّمت الباحثة قمر شريف مداخلة بعنوان (صلاح الدّين عائد على فرسه من جديد) تحدّثت فيها عن صلاح الدّين/ الحلم الّذي انتظره كثيرون خلال القرن الماضي ليأتيهم على فرسه مخلّصاً، وكان الأجدر بهم أن يعملوا على تأهيل عقولهم وعقول أبنائهم كما فعل صلاح الدّين..
فصلاح الدّين الّذي هو اليوم أقرب إلى الأسطورة ليس وليدَ الخيال، بل استند إلى معطيات واقعه الّذي سبقه جيلان أسّسا له، عملا على النّهضة في الهويّة والفكر ثمّ الوحدة وعلوّ الدّين في النّفوس.
إنّ انتصارات صلاح الدّين كانت انتصارات واقعيّة تهيّأت لها أسباب تحقيقها، أمّا عصرنا الحاليّ فإنّه يفتقر إلى جميع مقوّمات النصر. وتابعت شريف بأنّ ظاهرةَ الإصلاح عملٌ جماعي وليس فرديّاً، كما أكّدت على أنّ صلاح الدّين هو الدرس الأبلغ لأصحاب النّظّارات السّوداء والحالمين معاً كي يعوا أن الماضي كان في بعض جوانبه أسوأ من الحاضر، ومع ذلك يمكن للجهود إذا تضافرت أن تتجاوز ما هو أسوأ بكثير.
وختمت بقولها: صلاح الدّين هو إجماعُ صديقٍ وعدوٍ على عظمة أمّة في رجل…. فهل عرفتَ يا يوسف زيدان من هو صلاح الدّين؟
وفي نهاية الجلسة تمّ فتح باب الحوار أمام الحضور للإدلاء بآرائهم في الموضوع المطروح وكان أوّلهم الشّاعر أحمد الجوّاش الّذي قال:
أوّلا: علينا ألّا ننسى أنّ يوسف زيدان هو من تلاميذ حسين مؤنس وطه حسين، وهما من أصحاب الثّقافة الأوربيّة الّتي لها ما لها وعليها الكثير.
وثانياً: إنّ إعادة محاكمة الأشخاص التّاريخيّين قضيّة غير موضوعيّة، لأنّها تعتمد أدلّة غير محقّقة.
ثالثاً: إنّ الهدف من دراسة التّاريخ هو أخذ العبرة وليس إعادة محاكمة أبطاله.
رابعاً: لا ينكر استهداف الأمّة بالحرب تاريخاً وواقعاً، ومن بعض صور هذه الحرب استهداف الرّموز وتشويه صورهم في الأذهان، وما فعله يوسف زيدان يخدم مصلحة العدوّ في هذه الحرب.
وعقّب الفنّان مصطفى حاج بكري بالقول: إنّ هناك أغراضاً مشبوهةً تكمن خلف مثل هذه الطّروحات في هذا الوقت بالذات.
وتقدم الأديب زياد الأحمد بمداخلة قال فيها:
إنّ قراءة يوسف زيدان وتأويله لشخصيّة صلاح الدّين هو تأويل فظٌّ مجتزأ لحقبة تاريخيّة معقّدة، بل هي رغبةٌ في التّعالم الإعلاميّ والهرطقة التّاريخيّة إن لم يكن وراءها أسباب دونيّة أخرى (نحن في ملتقانا أكبر من أن ننزل إلى مستوى الخوض في أهدافها الدّينيّة والطّائفيّة والتّعصبيّة، وإن كان من حقّنا أن نطرح السّؤال: لماذا؟ وفي هذا الوقت بالذات صلاح الدّين ومحاربته للدولة الفاطميّة؟ ).
إنّ مثل زيدان في رؤيته لشخصيّة صلاح الدّين كمثل رجل استاء من صلاة المسلمين فاستشهد على إنكار الصّلاة بقوله تعالى (ويلٌ للمصلّين)، و(لا تقربوا الصلاة) مجتزئاً من الآية ما يناسب دناءة غرضه.
وتابع الأحمد: هناك إجماع من العدوّ قبل الصّديق (ومنهم آرنول مؤرّخ الحروب الصليبيّة المعاصر لصلاح الدّين) على تفوّق شخصيّته إنسانيّاً وحضاريّاً وعسكريّاً وسياسيّاً، فقد ثبت تعاملها المتسامح مع الخصوم والأعداء وتغيير مجرى التّاريخ المصريّ والعربيّ. فإنسانيّاً: هو الّذي أطلق سراح الأسرى، والّذي أرسل طبيبه اليهوديّ الخاصّ لمداواة عدوّه ريتشارد قلب الأسد، أمّا سياسيّاً وعسكريّاً فهو الّذي استطاع جمع جيوش الشّام ومصر والعراق وليبيا وحرّر بيت المقدس وقضى على الدّولة الفاطميّة الّتي كانت على وشك الانهيار. كلّ هذا وزيدان يريد من صلاح الدّين أن يفعل ما فعله بعصاً سحريّةٍ، دون إراقة قطرة دم واحدة أو على طريقة غاندي و مارتن لوثر كينغ.
وختم بقوله: إنّ الحملة على صلاح الدّين هي انتقام الحاضر البشع من الماضي الجميل. وكانت المداخلة الأخيرة للشاعر ياسر الأطرش الّذي علّق قائلاً: إنّ ما ميّز هذه النّدوة أنّها ابتعدت عن لغة السّبّ والشّتم، ولم تقارب الأطراف دينيّاً أو طائفيّاً، كما أنّها ابتعدت عن التّقرير والتّقديس، فاعتمد المتحدّثون لغةً علميّةً منطقيّةً ومقارباتٍ تاريخيّةً اعتمدت المقاطعة والمقارنة.
وردّاً على قول من قال إنّ الأمر يبدو نبشاً في التّاريخ غير مفيد قال الشّاعر الأطرش: إنّ الحاضر والمستقبل يبنى على أسس سليمة بقراءة واعية للتاريخ وتجاربِ الماضي، كما أنّنا لسنا قادرين بعد ولسنا جاهزين ـ فيما يبدو ـ كمجتمعات عربيّة لقراءة الواقع ومواجهته بالشكل الصّحيح، وكما هو، وهذا ما يشي به واقع اللّاجئين الّذين يهربون من مواجهة الواقع والحقيقة، بل ويرون في التّزييف أملاً وسبيلَ عيش.